ن الذي يتأمل ساحة الشرق الأوسط في مستهل عام 2022 سيلحظ أنه عام القلق والاضطراب لأسباب عدة، لا تبدأ بوباء كورونا وتداعياته، ولا تنتهي بالنزاعات العسكرية في أكثر من مكان، وإذا كان العام الماضي شهد حالاً من السيولة في العلاقات الإسرائيلية – العربية، فإن الحالي قد يكون عام المواجهة الإسرائيلية -الإيرانية بامتياز، لأن بوادره توحي بدخول محادثات البرنامج النووي الإٍيراني إلى طريق شبه مسدود في ظل تصريحات إسرائيلية بل وغربية عموماً، تهدد بمواجهة عسكرية في المنطقة تضرب أعصاب ذلك البرنامج النووي في مواقعه على الأرض بما يهدد بإيقافه لعدة سنوات على الأقل، فإيران النووية شبح يؤرق الغرب وإسرائيل ودول غرب آسيا التي تنتمي للعالم العربي، وفي مقدمها دول الخليج، فالسياسة الخارجية الإيرانية تقوم على مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتصدير الثورة. إن إيران لديها أجندة إقليمية طموحة تسعى من خلالها إلى السيطرة على جيرانها وفرض أفكارها في عدد من الدول، حتى لو كان ذلك ضد إرادة شعبها مثلما يحدث في لبنان ويجري باليمن، ولا شك في أن الصراع الإيراني مع دول الجوار يأتي متلازماً في الأجندة الإيرانية ومقترناً بالمواجهة مع إسرائيل، وفي ظني أن العرب يجلسون على مائدة اللئام بدءاً من المشروع الإسرائيلي بعيد المدى في تحصين الدولة العبرية إقليمياً، مروراً بالأطماع العثمانية التي يجسدها الخليفة الجديد رجب طيب أردوغان، ووصولاً إلى الأطماع الفارسية التي يجسدها النظام الصفوي الجديد في طهران، وإلا فما هو تبرير نشاط حزب الله في لبنان ودعم الحوثيين باليمن، في محاولة لتمزيق ذلك البلد الذي يدفع فاتورة غالية على مر السنين، فضلاً عن التدخل غير المباشر في العراق تحت عباءة المذهب الديني، في محاولة لاختراق عروبته وتقسيم وحدته، كما أن إيران تمارس دوراً في سوريا تحاول به اختراق تلك الدولة العربية الحصينة، بإلزامها بالتماهي مع السياسة الفارسية في كل الأحوال.
إن عام 2022 يحمل من الاحتمالات المرتبطة بغيوم الفضاء ما ينذر بسقوط أمطار قد تغرق المنطقة في غرب آسيا وشمال أفريقيا تحت وطأة رياح عاتية، تهب من مواقع المواجهة وتعصف في طريقها بالاستقرار النسبي الذي تحظى به عدد من الدول، مثلما هو الأمر بين الدولتين الشقيقتين المغرب والجزائر، فضلاً عن أن الوضع في ليبيا لا يزال معلقاً، ولا تبدو محاولات استقراره قريبة بسبب حشد الميليشيات الأجنبية فوق أراضيه الواسعة.
أما ما يحدث في السودان فأمر محير حتى الآن، إذ تبدو عملية التقسيم التقليدي هناك بين عسكري ومدني عملية تحمل في طياتها أسباب انهيار المشروع الوطني، ويهمني أن أسجل هنا في العام الذي يبدأ أيامه الأولى الملاحظات الآتية:
أولاً، إن الذين يراقبون السياسة الخارجية الأميركية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية يدركون أن هذه السياسة متغيرة وفقاً للظروف الدولية وما تفرزه الأحداث من تحديات جديدة، وإذا كانت الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الثانية بشهية مفتوحة لوراثة الوجودين البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط، تحت مسميات خادعة مثل “نظرية الفراغ” و”مبدأ أيزنهاور” فإنها قد مارست سياسات تتسق مع ذلك بتدخلاتها في العراق وأفغانستان وغيرهما من المناطق الساخنة في العالم، ولكن الملاحظ حالياً أن الأمر بدأ يختلف وأن واشنطن تتجه نحو سياسة انكماشية تسحب بها قواتها من أفغانستان والعراق، وهو أمر بدأت بوادره منذ إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، بل إن إدارة الرئيس الأسبق أوباما حملت بعض الإرهاصات في هذا السياق، وكان من مظاهرها محاولة فرض أنظمة إسلامية على عدد من دول المنطقة تكون بديلاً للوجود الأميركي، وحامية لاستقرار الدول وحارسة للقيم السائدة في المنطقة التي يغلب عليها الطابع الديني من وجهة نظر إدارة أوباما، وها هي إدارة بايدن تسعى بأسلوب تصالحي إلى إقرار سياسة أميركية ترقب ما يجري، وتفضل أن تكون شريكاً غير مباشر لا يتورط في مزيد من التدخلات بمناطق العالم المختلفة.
ثانياً، إن زعامة بوتين في موسكو توحي بمحاولة استعادة أمجاد روسيا السوفياتية بل وروسيا القيصرية أيضاً، وهو يناطح الغرب لتحجيم مساندة حلف الأطلنطي لدولة أوكرانيا تحت دعاوى تأمينها من الخطر الروسي المحتمل، وسيشهد هذا العام 2022 تطورات ساخنة على الحدود الروسية – الأوكرانية، لأن القيصر الجديد في موسكو يريد أن يستعيد هيبة بلاده في مواجهة الغرب، بل أكثر من ذلك فإنه يمضي في التقارب مع الصين لإحداث توزان دولي في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، أي أننا بصدد حرب باردة تخفي في طياتها صراعات قومية مكتومة طالما تغطت بغطاء أيديولوجي في أحقاب سابقة.
ثالثاً، إن الحروب الأهلية والمواجهات الداخلية بين القوى السياسية والطوائف الدينية قد احتدمت في ظل تدخلات خارجية وضغوط أجنبية، وأصبحنا نشهد قلاقل واضطرابات لا تتوقف داخل الدولة الواحدة، وغالباً ما يتم ذلك بدعم من طرف أجنبي لبعض هذه القوى، وتدفع الدول فاتورة غالية بالدخول في نزاعات مسلحة تؤدي إلى خروج ملايين اللاجئين والنازحين، وتمزق الوحدة الإقليمية لتلك الدول، وقديماً كان هناك مثل سياسي يقول “إذا تصارعت الفيلة تكسرت الحشائش”، وهذا ما يحدث في عدد من الدول العربية وغير العربية في فضاء المنطقة. إن الاحتراب الداخلي والنزاعات الأهلية تشكل خطراً جسيماً لا على استقرار الدول وحدها، ولكن على الأمن الإقليمي والسلم الدولي أيضاً.
رابعاً، تبدو أوروبا اليوم كالرجل العجوز الذي يراقب الأحداث ويشهد التطورات، بحيث يصدر التصريحات المتتالية والتعليقات التي تبدو في مجملها تعليقات سلبية، ويكتفي بذلك لأن المواجهة الصينية – الأميركية المحتملة تعفيه من أن يكون طرفاً مباشراً في ما يجري، خصوصاً أن الحرب الباردة الحالية ذات طابع اقتصادي وليست مجرد خلاف بين أيديولوجيات سياسية، كما كان الأمر من قبل، فضلاً عن أننا لا نستطيع أن نزعم أن الاتحاد الأوروبي في أفضل أوضاعه، خصوصاً بعد خروج بريطانيا منه وتأثر الاتحاد بانتهاء زعامة ميركل في ألمانيا وترقب الانتخابات الفرنسية، وكل ذلك يوحي بأن الاتحاد الأوروبي يتغير، خصوصاً أن جائحة كورونا قد جعلت الدول أكثر أنانية وأشد رغبة في التركيز على الدولة الوطنية قبل التجمعات الإقليمية أو حتى الاهتمام بالقضايا الدولية.
خامساً، قلنا مراراً أننا نواجه عصراً جديداً يضم التحالفات الناقصة ويتصف بالسرعات المتفاوتة، فلم تعد هناك مساحات كبيرة من التوافق الأيديولوجي أو السياسي، بل أصبحنا نشهد عن كثب اختفاء الدولة الأيديولوجية وبروز الدولة القومية، وهو ما يعني أن عصر الأيديولوجيات قد ولّى، وأن تأثير القوميات هو الأقوى والأبقى.
أردنا من هذا الاستعراض السعي نحو مسحٍ شامل للساحتين الدولية والإقليمية في عام يبدأ أيامه الأولى، واضعين في الاعتبار أن الجديد يولد من رحم القديم، وأن عام 2022 سيكون امتداداً لسابقه، لأن التواريخ الفاصلة لا تحدد اختلافات قاطعة في مسيرة الزمن، فالتداخل مستمر والبشر ماضون في طريقهم مع مرور العصور واختلاف الظروف. إن التاريخ وحدة متكاملة قد يكرر أحداثه ولكن بأساليب مختلفة وزعامات جديدة، فالعالم يجدد شبابه من حين لآخر، ولكنه لا يخرج تماماً من جلباب الآباء والأجداد، وإذا كان لكل عصر مظاهره ورموزه فإن التاريخ البشري في النهاية كما ذكرنا وحدة متكاملة تحتاج إلى الدراسة الشاملة والرؤية المشتركة من أصحاب الرأي وذوي الخبرة، فالغد هو ابن اليوم، كما كان الاثنان نتاج الأمس بكل ما له وما عليه.
نقلا عن اندبندنت عربية