تحت هذا العنوان أفردت دورية “الشؤون الدولية” محوراً في عددها الأخير، لتناول ديناميكيات التحول الجيو استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، حيث يشير رئيس التحرير في افتتاحيته، إلى أن الولايات المتحدة بعد عقود من قبول الأنظمة في المنطقة كما هي، بدأت تنتقل إلى فرض رُؤاها الأحادية عليها، مثل مشاريع نشر الديمقراطية، والشرق الأوسط الكبير، ودعم انتفاضات ما سمي “الربيع العربي”، باعتبارها، كما قال الرئيس الأسبق، باراك أوباما، “فرصة للحاق بالعالم كما ينبغي”، أي على صورة أميركا.
وكان الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، أكثر واقعية حينما وصف طبيعة التطلعات السياسية الأميركية في مناطق العالم المختلفة، مؤكداً أنهم لا يذهبون خارج أميركا دفاعاً عن الديمقراطية، أو الشرعية الدولية، أو لمحاربة الديكتاتوريات، بل إنهم يذهبون إلى هناك لأنهم، ببساطة، لا يسمحون بأن تمس مصالح أميركا الحيوية.
فلم تكن العمليات العسكرية في أفغانستان أو العراق أو في أي مكان آخر، في ظل كل الإدارات الديمقراطية أو الجمهورية، لنشر الديمقراطية، بل أثبتت واشنطن، بحسب البروفيسور غريغوري غوز، محاضر الشؤون الدولية في كلية بوش للشؤون الحكومية والخدمة العامة بجامعة تكساس، في كل تجاربها الحديثة، أنها أفضل بكثير في تدمير الدول من بنائها، وينصح بأن تكتفي واشنطن في تعاملها مع الشرق الأوسط بأقل من ذلك، وتقبل بالنظم كما هي، مستقرة وليست بالضرورة على شاكلة أميركا.
وأضاف البروفيسور غوز، في مقالته بالعدد نفسه من دورية “الشؤون الدولية”، بعنوان: “قيمة النظام، القبول بما هو أقل في الشرق الأوسط”، أن على أميركا رسم مصالح محدودة ومتواضعة في الشرق الأوسط، وأن تترك وراء ظهرها الأهداف الإقليمية العامة التي كانت تتبنّاها سابقاً، وسيكون من الأفضل التركيز على استقرار الإقليمي، وضمان نظم حكم مستقرة في منطقة الخليج الغنية بالنفط، وتفعيل الدبلوماسية لضمان الأهداف الأميركية فيما يتصل بالنفط، ومكافحة الإرهاب، والنزاع العربي – الإسرائيلي، وعدم الانتشار النووي، وهي أمور أكثر منطقية بكثير من مطاردة أوهام مثل بناء الدول، وتغيير النظم، ونشر الديمقراطية.
وتتزايد الأصوات في أروقة الفكر السياسي بالولايات المتحدة حول خطأ التوجهات الأميركية خلال العقود الأخيرة لتشكيل العالم على صورتها، من منطلق أن لكل شعوب العالم الحق في اختيار أنماط الحكم التي تناسبها، وأن القواسم المشتركة التي يفترض أن تجمع عليها دول العالم على اختلاف توجهاتها تنطلق من مبادئ الحكم الرشيد، النابع من طبيعة المجتمعات الإنسانية، وموروثاتها السياسية، والثقافية، والاجتماعية.
وهذه النظرة الأميركية المرتبكة والمقاربات المختلفة بين إدارات ديمقراطية وجمهورية، كانت سبباً في نظر المراقبين لتقلبات علاقات واشنطن الرسمية مع دول المنطقة، على الرغم من عمق الوشائج التي جمعت الشعب الأميركي وشعوب المنطقة في السعودية ودول الخليج. فمئات الآلاف من أبناء المنطقة أكملوا دراساتهم الجامعية والعليا في الجامعات الأميريكة، وعادوا لبناء دولهم وهم يحملون أجمل الانطباعات عن المجتمع الأميركي التعددي والاستثنائي، كما تداخلت خلال العقود الثمانية الأخيرة المصالح والاستثمارات المشتركة.
مملكة القرار العربي المستقل
في بداية سبعينيات القرن الماضي، لعب “سلاح النفط” دوراً في لفت أنظار العالم إلى السعودية باعتبارها مملكة القرار العربي، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن تفرط في المصالح الحيوية العليا للعرب والمسلمين. ومنذ ذلك الحين برزت أهمية استخدام النفط كسلاح في حروب المصالح، وما زال النفط يؤكد اليوم فاعليته، وهو ما لا يتناقض مع مبدأ أن الاختلاف في المصالح لا يفسد للود للقضية.
ولم يتغير مضمون العلاقة الاستراتيجية بين السعودية وأميركا منذ أربعينيات القرن الماضي، نظراً لثبات السياسة الخارجية للمملكة، التي تنطلق من مُسلّمات لا تقبل المراهنات ولا المساومات، في مقابل التحولات في مقاربة الإدارات المختلفة للملف الاستراتيجي الخليجي، ما يثير التساؤل حول ما تريده واشنطن من المنطقة.
وأدّت أزمة الحرب في أوكرانيا والعقوبات الدولية على روسيا، وما تلاها من اضطرابات في أسواق النفط، إلى أن تطفو على السطح حال من التوتر والتململ الواضحين تشهدهما منطقة الشرق الأوسط منذ وصول الإدارة الديمقراطية، وتراجع اهتمامها بالمنطقة، وانشغالها بدرجة أكبر بالصين وروسيا، بل وقيامها بخفض مستوى انخراطها العسكري والسياسي مع دولها، بفعل تركيزها على العودة إلى الاتفاق النووي على الرغم من تناقض هذه المقاربة مع نظرة حلفائها الرئيسين في منطقة الخليج.
وتتعزز لدى صانع القرار السعودي والخليجي القناعة بأن أميركا لن تأخذ بعين الاعتبار بواعث قلقها من الدور الإيراني المزعزع للأمن والاستقرار الإقليمي، في مفاوضات فيينا، بل إن المفاوض الأميركي لمح أخيراً إلى إمكانية رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية في سبيل التوصل لاتفاق مع إيران.
ويشكل عدم التفات المفاوض الأميركي لقلق الشركاء الخليجيين تحدياً جدياً لدى قياس تكلفة العودة إلى الاتفاق النووي، وضخ الروح في نظام الملالي المتهالك، الذي يمارس الابتزاز عبر إرهاب الدولة وإطلاق الصواريخ والمسيّرات وتهديد الملاحة الدولية في الخليج العربي والبحر الأحمر، والتهديد بتصنيع الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، ويعتمد في توسعه الإقليمي على أذرعه الإرهابية، مثل “حزب الله”، وفصائل الحشد الشعبي، والميليشيات الحوثية، لابتزاز دول المنطقة والعالم، وتعريض أمنها القومي وأمن إمدادات الطاقة الدولية للخطر.
وتقول كاثرين باور، الباحثة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والمسؤولة السابقة بوزارة الخزانة، والتي خدمت في إسرائيل ودول الخليج، إن التوترات الجارية بين أميركا ودول الخليج جزء من شعور أوسع حيال التراجع الأميركي عن المنطقة. مضيفة أن الشعور بأن أميركا لم تعد تولي المنطقة الاهتمام الكافي، يضيف إلى هذا المعنى، من منظور أن الولايات المتحدة لم تعد الشريك الأكثر موثوقية في الماضي القريب.
وخلال الفترة الماضية، تعاظم شعور رد الفعل تجاه ما يمكن تسميته الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط، في ضوء العلاقات الاستراتيجية بين السعودية وعواصم خليجية رئيسة مع واشنطن، وتناقضات الإدارات الأميركية المختلفة في مقارباتها للتحالف الاستراتيجي، وعدم تفهمها لمصادر قلق الدول الخليجية من التغول الإيراني على أمنها القومي. ونحن نتحدث هنا عن تحالف متجذر مثل التحالف الأميركي – السعودي الممتد لأكثر من سبعين عاماً، أنجزت خلاله خطوات مشهودة في مجالات شتى، مثل دحر الخطر الشيوعي على سبيل المثال.
علاقة تخضع لاختبار قاسٍ
في الواقع، إن التوتر الحالي هو امتحان قاسٍ للعلاقة تحت ضغط عالي الجهد، وقد سبق للعلاقات الاستراتيجية بين واشنطن وعواصم المنطقة أن مرّت بمراحل تحدٍّ مشابهة، تمكّنت من تجاوزها بفعل الشراكة الطويلة والحوار البناء والصادق، والأواصر العميقة بين شعوب المنطقة والشعب الأميركي. فلا يمكن بأي حال من الأحوال لأميركا أن تنسحب من المنطقة، لما تمثله من أبعاد استراتيجية كبيرة، وموقع حيوي، ومركز نفوذ دولي، إضافة إلى موارد النفط والطاقة، وسيطرة دولها على أبرز الممرات والمضايق المائية التي تمر من خلالها معظم التجارة واحتياجات الطاقة الدولية.
إن مداميك العلاقة التي تأصَّلت طوال ثمانية عقود يجب أن تكون كافية لبناء وتعظيم صرح الشراكة الأميركية مع دول المنطقة، وهي شراكة تقع التزاماتها على الطرفين، ويجب معالجة ما اعتراها من توتر عبر تفعيل مسؤولية أميركا تجاه شركائها في المنطقة والمساهمة في التصدي للإرهاب الإيراني الذي يدفع أذرعه الإرهابية الحوثية لزعزعة الأمن القومي لدول المنطقة. وإذا ما أخفقت هذه الشراكة فإن الشرق الأوسط سيواصل التقدم بحثاً عن نظام ما بعد أميركي، وهذا ما تحذر منه مراكز الفكر في الولايات المتحدة.
نقلا عن اندبندنت عربية