الشرق الأوسط والنظام الدولى – الحائط العربي
الشرق الأوسط والنظام الدولى

الشرق الأوسط والنظام الدولى



المتابع لتطوّر علاقات وتوازنات القوة على مستوى النظام الدولى يلحظ ارتباط هذا التطور بدرجة كبيرة بما يحدث فى داخل منطقة الشرق الأوسط.وربما باستثناء ما حدث فى عام ١٩٥٦ كما سيتم توضيحه، يمكن القول إن هذه العلاقة الارتباطية كانت غير مقصودة من الدول شرق الأوسطية إنما كانت هناك مجموعة من التفاعلات التى وجدت فيها تلك الدول نفسها جزءًا منها، ومن حصيلة تلك التفاعلات أعيد تشكيل الحدود بين القوى العظمى.والسبب فى استثناء ما حدث فى عام ١٩٥٦ من عدم تعمّد تغيير النظام الدولى، يرجع إلى أن الخمسينيات كانت هى مرحلة ازدهار حركات التحرر الوطنى من الاستعمار الأوروبى وبالأساس من الاستعمارين البريطانى – الفرنسى اللذين كان لهما نصيب الأسد فى تلك الفترة من المستعمرات فى قارتّى إفريقيا وآسيا. وهذا المدّ التحررى كان يعبّر عن إرادة قصدية أو عمدية من جانب شعوب العالم الثالث لإنهاء عصر الهيمنة الأوروبية وتعزيز دور الشعوب انطلاقًا من مؤتمر باندونج فى عام ١٩٥٥.هذا المنحى التحررى كان لابد أن يواجه رفضًا من القوتين الأوروبيتين الأبرز، أى بريطانيا وفرنسا، وكانت حرب السويس هى أحد أشكال هذا الرفض. وفى الوقت نفسه، كانت البيئة الدولية تحمل البذور الجنينية لأفول عصر الهيمنة الأوروبية من خلال إنهاء العزلة الدولية للولايات المتحدة،وفى هذا السياق جاء الموقف الأمريكى من العدوان الثلاثى على مصر بضرورة الانسحاب من بورسعيد وسيناء، ومن ناحية أخرى وجه الاتحاد السوڤيتى إنذاره الشهير للمعتدين، حتى إذا نجح فى إطلاق الصاروخ عابر القارات فى عام ١٩٥٧ تبلورت ملامح نظام دولى جديد قوامه القطبية الثنائية.

مثلّت حرب الخليج الثانية أو حرب عاصفة الصحراء التى قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت فى يناير ١٩٩١- مناسبة لتعزيز المكانة الدولية الأمريكية، وصولًا إلى بدء عصر القطبية الأمريكية الأحادية مع تفكك الاتحاد السوفيتى إلى خمس عشرة جمهورية فى نهاية العام نفسه.طبعًا لا يمكن الزعم أن عاصفة الصحراء هى التى أدَت إلى التحوّل من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية،فلقد كانت مظاهر التمرد داخل الإمبراطورية السوڤيتية قرينة لصعود ميخائيل جورباتشوف للسلطة فى عام ١٩٨٥ وتبنيه سياسة البرسترويكا أو إعادة الهيكلة،لكن بالتأكيد فإن عاصفة الصحراء كانت من مظاهر تبلور هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولى بحشد نحو ٣٥ دولة من دول العالم للمشاركة فى إخراج العراق من الكويت.وسواء كان غزو صدام حسين الكويت نتيجة استدراج أمريكى له كما فى الرواية الرائجة بهذا الخصوص،أو كان الغزو سعيًا لتعظيم مكانة العراق فى إطار النظام العربى،فإن ما نتج عن تحرير الكويت من انعكاسات على مستوى بنية النظام الدولى وتحولّه إلى الأحادية القطبية لم يكن تصرفًا عمديًا من العراق.والتحليل نفسه ينطبق على الاحتلال الأمريكى للعراق فى ٢٠٠٣، والذى جاء تأكيدًا للقطبية الأمريكية وتفرَد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولى، ولا أدّل على ذلك من تنفيذ چورچ بوش الابن غزو العراق رغم معارضة مجلس الأمن وانطلاق المظاهرات الرافضة للحرب فى معظم أرجاء العالم. لكن فى الأفق كانت تتكوّن عوامل إعادة هيكلة النظام الدولى مع وصول فلاديمير بوتين للسلطة فى روسيا عام ٢٠٠٠ وامتلاكه رؤية استراتيچية لاستعادة الدور الروسى على الصعيد الدولى، وهنا مثّل الشرق الأوسط ساحة مهمة لإعادة رسم توازنات القوة الدولية من أكثر من زاوية. فمن جهة تحوّلت أفغانستان التى دخلتها الولايات المتحدة فى عام ٢٠٠١ للقضاء على حركة طالبان إلى مستنقع لاستنزاف القوة الأمريكية وصولًا إلى اضطرار دونالد ترامب للتفاوض مع حركة طالبان والتوصّل بالفعل إلى اتفاق بوساطة قَطَرية فى عام ٢٠٢٠، كما تسببت المقاومة العراقية فى سحب معظم القوات الأمريكية من العراق. ومن جهة أخرى أدّى وصول رجب طيب أردوغان لرئاسة الوزراء فى تركيا عام ٢٠٠٣ ثم لرئاسة الجمهورية فى عام ٢٠١٤ إلى إطلاق مشروع العثمانية الجديدة الرامى إلى إحياء الميراث الإمبراطورى لتركيا، ومن قبل ذلك بطبيعة الحال الثورة الإيرانية بطموحاتها بالغة الاتساع إلى تعزيز مكانة القوى الإقليمية فى تفاعلات منطقة الشرق الأوسط، ثم جاء فشل العدوان الإسرائيلى على لبنان صيف ٢٠٠٦ فى القضاء على حزب الله، وانتفاضات الربيع العربى منذ ٢٠١١ وما أدت إليه من تزايد الاختراق الإقليمى والدولى، خصوصًا الروسى للمنطقة، جاء ذلك كله ليؤدى لانحسار مساحة النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط.هذا الانحسار هو جزء من ظاهرة أشمل تتعلق بانحسار النفوذ الدولى للولايات المتحدة وصولًا إلى اجتياح روسيا لأوكرانيا فبراير الماضى وعقم سياسة العقوبات الأمريكية-الغربية الصارمة فى وقف تقدّم القوات الروسية.ويمكن اعتبار الاجتياح الروسى بمثابة نقطة تحوّل فى توازنات القوة على صعيد النظام الدولى، لأنه أظهر المدى الذى يمكن أن تصل إليه القوة الأمريكية فى مواجهة روسيا.وإذا أضفنا لما سبق التوسع المستمر فى العلاقات الصينية مع دول الشرق الأوسط سواء العربية منها أوغير العربية – خصوصًا إيران، فإنه يمكن القول إن هذه المنطقة تعيد من جديد ترسيم مكانة القوى الكبرى على قمة النظام الدولى.

توجد فى الشرق الأوسط مفاتيح كثيرة مَن يمسك بها يمكنه أن يؤثر فى الصراع على قمة النظام الدولى،إنها مفاتيح الطاقة من النفط والغاز، والنزاعات والحروب وظواهر اللجوء والهجرة غير المنتظمة وقضايا الأقليات،والإرهاب وكذلك جماعات المرتزقة والميليشيات العابرة للحدود،والنظم الوحيدة فى العالم القائمة على أسس مذهبية طائفية ودينية،وطبعًا يوجد هناك مفتاح إسرائيل.ولذلك نسمع كلامًا كثيرًا عن أن هذه الدولة أو تلك قررت أن تنفض يديها عن الشرق الأوسط جزئيًا أو كليًا ،لأنه صار غير مهم ولأن مناطق أخرى أولى بالتركيز،ثم تكتشف هذه الدول أن الشرق الأوسط أهم من أن يتم تجاهله.

نقلا عن الأهرام