الشرق الأوسط والتراجع الأميركي – الحائط العربي
الشرق الأوسط والتراجع الأميركي

الشرق الأوسط والتراجع الأميركي



منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، تلقيت أسئلة عدد من الصحفيين- أميركيين وعرب- حول ما يعنيه الانسحاب الأميركي للمنطقة وللقيادة الأميركية في العالم، وما الدول التي ستملأ الفراغ الذي خلفه الآن غياب الولايات المتحدة عن المشهد.

ولا أشك في أن الدافع وراء هذه الأسئلة، وبنسبة ليست قليلة، هو فوضى الانسحاب والمشاهد الفوضوية في المطار والقصص الإنسانية المؤلمة لمن تُركوا هناك، والسرعة التي انهارت بها الحكومة الصديقة لأميركا وما تلا ذلك من سيطرة طالبان على البلاد. ونبهت الذين طرحوا هذه الأسئلة إلى حقيقة أن مشكلات أميركا في الشرق الأوسط الكبير لم تبدأ بالانسحاب.

لقد بدأت هذه المشكلات قبل عشرين عاماً بقرارات طائشة ومكلفة وكارثية من إدارة بوش لغزو كل من أفغانستان والعراق واحتلالهما ومحاولة إنشاء «ديمقراطيات» تدعم مصالحنا فيهما. كانت هذه الحروب طائشة لأنه في كلتا الحالتين، أوضح مجتمع الاستخبارات الأميركي ومسؤولون أميركيون مخضرمون من الخارجية والدفاع لإدارة بوش بأن هذه حروب لا يمكن تحقيق النصر فيها ولا يمكننا تشكيل حكوماتها حسبما نريد. وفي كلتا الحالتين، ضرب بوش صفحاً عن نصح هؤلاء، واستمع بدلاً من هذا إلى «المحافظين الجدد» الذين أصبحوا القوة المهيمنة في حكومته.

وهؤلاء المؤدلجون لم تكن لهم دراية بثقافة أو تكوين أو تاريخ أي من البلدين، ولذا غلّبوا الأيديولوجيا على الواقع. ونتيجة لذلك، كانت الجهود، منذ البداية، محكوم عليها بالفشل. وكلفت هذه الحروب الولايات المتحدة وأفغانستان والعراق الكثير من الأرواح والأموال. وخسائر الأفغان والعراقيين لا تحصى.

أما الولايات المتحدة، فقد خسرت أرواح أكثر من ستة آلاف جندي، مع تشويه عشرات الآلاف ما بقي لهم من الحياة. فقدنا في كل عام، منذ نهاية القتال النشط في كل من أفغانستان والعراق، أكثر من 6000 من قدامى المحاربين الأميركيين نتيجة الانتحار، أي 20 مقاتلاً سابقاً يومياً! وبالإضافة إلى هذا، هناك عشرات الآلاف ممن انضموا إلى صفوف المشردين والمدمنين على المخدرات. وكل هذا نتيجة الصدمات التي سببتها الحرب.

وتأثرت معنويات الجيش. وتكلفنا حتى الآن أكثر من ثلاثة تريليونات دولار نتيجة هاتين الحربين ومعالجة قدامى المحاربين والمشوهين والمصابين باضطراب ما بعد الصدمة والمدمنين. والحربان كانتا كارثيتين لأنهما لم يحققا الهدف منهما.
فالتطرف لم يُهزم بل تحول إلى أشكال أكثر ضراوة وانتشر في عدد أكبر من البلدان. واُطلقت يد إيران الآن في المنطقة وأصبحت أكثر جرأة في التدخل في شؤون الآخرين. وضعفت هيبة الولايات المتحدة.

وكان هدف «المحافظين الجدد» هو كسب الحرب وضمان قرن من الهيمنة الأميركية في عالم أحادي القطب، لكن ما حدث أن لدينا الآن عالماً متعدد الأقطاب تسعى فيه قوى إقليمية وعالمية أخرى وراء تحقيق طموحاتها الاستراتيجية في بلد بعد آخر على امتداد الشرق الأوسط. ولذا، سواء بقينا في أفغانستان أو انسحبنا منها، فقد ترسخ بالفعل واقع جديد.

هناك قوى أخرى تحل محلنا أو تتنافس معنا على النفوذ، ونفوذنا محدود. لكن ما زال للولايات المتحدة نفوذ في الشرق الأوسط – اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً. ومازلنا نمثل الاقتصاد الأكثر نجاحاً في العالم، ومازال لدينا قدرات ردع كبيرة يمكنها الدفاع عن الحلفاء، ومازالت «قوتنا الناعمة» أهم أصولنا.

ورغم الكارثية المحتملة لرحيل الولايات المتحدة، لكن لم يكن هناك بد من تقليص خسارتنا ومغادرة أفغانستان وإنهاء دورنا القتالي النشط في العراق. لكن اتخاذ هذه القرارات لا يعني، بحال من الأحوال، تخلينا عن المنطقة. إنه يعني ببساطة أننا أدركنا الحقائق التي تجاهلها «المحافظون الجدد»، وما نحتاجه الآن هو فحص واضح للضرر الناجم عن كلا الحربين وتعديل موقفنا الإقليمي ليوائم بشكل واقعي بين احتياجاتنا وبين قدراتنا حتى نحقق أفضل حماية لمصالحنا ولحلفائنا.

نقلا عن الاتحاد