أثبتت الانتفاضات الشعبية التي تفجرت في العديد من أقطار الوطن العربي، عبر السنوات العشر الماضية، عجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة. وكان أهم أسباب ذلك: العجز والنواقص في أعداد وخبرة وكفاءة الكثير من القيادات الشبابية. الأمر الذي أفسح المجال لانتهاز تلك الفرصة، وسد تلك الثغرات القيادية من قبل قوى حزبية أو نقابية مارست القيادة الانتهازية، غير المالكة للقيم الأخلاقية السوية، الأمر الذي قاد إلى ارتكاب أخطاء وخطايا، ما ساعد على تراجع وانتكاس الكثير من انتفاضات الشباب الجماهيرية، وعلى نجاح الدولة العميقة في إطفاء ألق عربي كان واعداً بأن يكون مبهراً وعميقاً.
من هنا تبينت الحاجة لضرورة التحاق ملايين الشابات والشباب العرب بالأحزاب القائمة، أو خلق أحزاب جديدة إن لزم الأمر، وبالنقابات بكل أنواعها، وبالتنظيمات المهنية، وبالجمعيات الأهلية الفاعلة، عسى أن تتبع ذلك الالتحاق جهود شبابية لتجديد فكر واستراتيجيات وممارسات تلك القوى المدنية التي يلتحقون بها، واستلام القيادة من أيادي قيادات ترهّل بعضها، أو استسلم، أو اختُرق من قبل مغريات المال، أو الوجاهة، أو السلطة.
بمعنى آخر، ليس الهدف هو الاكتفاء بالسباحة في نفس المياه الآسنة مع الآخرين العاجزين، وإنما فتح مصادر مياه نظيفة متدفقة لخلق شلالات فكرية ونضالية تنظف وتُجدد تربة الأرض المدنية العربية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لماذا الحاجة إلى ذلك؟ لأن تلك الخطوات الضرورية لتجديد دم المجتمع المدني مفصلية تسبق قيام كتل تاريخية مجتمعية، على المستويين الوطني والقومي، تقود النضالات الجماهيرية من أجل إخراج الأمة العربية من الوضع الحضاري المتردي والمتخلف الذي تعيشه.
يُعتقد أن المفكر والمناضل الإيطالي غرامشي هو الذي بلور فكرة «الكتلة التاريخية» التي تبدأ بمجموعة من المثقفين العضويين الملتزمين بقضايا مجتمعاتهم، لتنتهي بانضمام كل الفئات التي تنشد التغييرات المجتمعية، من أجل التصدي لمشاكل مجتمعية خطرة كبرى لا تستطيع جهود فئة مجتمعية محدودة مواجهتها وحدها.
لقد تبنى تلك الفكرة العديد من الكتاب العرب، من مثل المرحوم محمد عابد الجابري الذي نادى بقيام «كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة» تتعلق بالتحرر، وإقامة نظام حكم عادل، وبناء ومجتمع منتج.
وكذلك تبنت الفكرة مؤسسات، من مثل مركز دراسات الوحدة العربية الذي ربط قيام تلك الكتلة بالمشروع النهضوي العربي الهادف لتحقيق الوحدة العربية والاستقلال الوطني والقومي والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري.
ومثلما توجه غرامشي نحو قيام «كتلة تاريخية» عندما تبين له عدم قدرة حزب واحد، أو مؤسسة الكنيسة، أو مجموعة مثقفين على مواجهة إشكالات وطنه الإيطالي الهائلة، فعل المنادون بضرورة قيام «كتلة تاريخية عربية»، عندما تبيّن لهم عدم قدرة أي حزب عربي، وطني أو قومي، على قيادة التصدي للمشاكل المحلية الوطنية، أو المشاكل القومية العربية الكبرى، وتبيّن لهم أن المؤامرات على هذه الأمة تزداد، وأن أعداءها يعملون بتناغم وتكاتف، وأن تفتت الوطن العربي إلى نتف صغيرة عاجزة قد أصبح واقعاً.
ما يهمنا بالدرجة الأولى من إعادة طرح موضوع طرحه الآخرون في الماضي مرات كثيرة، هو توعية شباب وشابات الأمة بأن الجهود والتضحيات الفردية والفئوية المتناثرة التي ما إن تنفجر حتى تخمد، وما إن تنجح في إزالة طاغية حتى تواجه عشرة طغاة جدد، لن تكون كافية لإخراج مجتمعاتهم من الجحيم والأهوال والمؤامرات الداخلية والخارجية التي تواجهها. لا بد أولاً من انضمامهم، زرافات ووحداناً، لمؤسسات مجتمعاتهم المدنية، أو خلق مؤسسات جديدة، ثم جعل تلك المؤسسات ديمقراطية نضالية تجديدية فاعلة، ثم النضال من أجل أن تتوجه تلك المؤسسات نحو التعاون، والاندماج النضالي في كتلة تاريخية عربية تنقلنا من تاريخ وحاضر مأزومين، إلى مستقبل حضاري إنساني.. ليست مهمة سهلة، لكنها غير مستحيلة.
نقلا عن الخليج