منذ اندلاع موجات الربيع العربي، مرّت السياسة الخارجية التركية بمراحل عدة، لسيولة المشهد الإقليمي من جهة، ولتعقد وتبدل أوراق الداخل من جهة أخرى، خاصةً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
أمّا الآن فيبدو أن الحسابات التركية اختلفت عمّا كانت عليه قبل عامين. فرغم علاقات التحالف التي تجمع حزب العدالة والتنمية التركي بحركة النهضة التونسية (الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين التونسية) والعلاقة الشخصية القوية بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” و”راشد الغنوشي” (زعيم الحركة)؛ إلا أن رد الفعل التركي الرسمي تجاه أحداث تونس اتسم بالحذر الشديد، وكأنه يسير في ميدان مُفخَّخ.
المبادرة كانت من الخارجية التركية عن طريق بيان أعربت من خلاله عن قلقها العميق حيال تجميد البرلمان التونسي، بجانب أملها في إعادة بناء الشرعية الديمقراطية بأسرع وقت ممكن وفق أحكام الدستور التونسي، ومؤكدةً أن الحفاظ على مكانة تونس الاستثنائية ومكتسباتها الديمقراطية يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لها وللمنطقة.
أمّا المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، فقد أعلن، في تغريدة عبر حسابه على موقع تويتر، عن رفض بلاده تعليق العملية الديمقراطية في تونس، ولكنه أشار إلى ثقته في أن الديمقراطية التونسية ستخرج أقوى من هذا المسار.
ورغم قيام مستشاري الرئيس التركي والمقربين منه بنشر مقالات معارضة لخطوات الرئيس التونسي؛ إلا أن “أردوغان” نفسه لم يخرج بتصريحات مباشرة، واكتفى وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، بالاتصال بنظيره التونسي، عثمان الجرندي، ليعرب عن قلقه إزاء تطورات الوضع على الأمن والاستقرار في تونس، وعن ثقته بأن الشعب التونسي سيتجاوز هذه المرحلة الحسّاسة.
ثم جاء أول احتكاك مباشر من قبل الرئيس التركي “أردوغان” بمسار الأزمة في تونس، عقب ثمانية أيام من قرارات “قيس سعيد”، حيث أجرى في 2 أغسطس 2021 اتصالًا هاتفيًا مع نظيره التونسي. ووفق دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فقد بحث الرئيسان التطورات في تونس والعلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، وأشار “أردوغان” إلى أهمية الحفاظ على استقرار تونس وسلمها الداخلي الهام لاستقرار المنطقة. وأعرب عن ثقته بأن تونس ستتجاوز هذه المرحلة الحرجة وتواصل طريقها بشكل أقوى بكثير. وشدد على أهمية استمرار أعمال البرلمان التونسي كأرضية للحوار والنقاش الصحي وإيجاد حلول للمشاكل.
أربعة محددات
1- الحفاظ على الدور التركي: يمكن القول إن السياسة الخارجية التركية خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية مرت بثلاث فترات مختلفة استهدفت التكريس للدور التركي. في الفترة الأولى تبنت النخب السياسية الجديدة نموذج سياسة خارجية جديدة تعطي الأولوية القصوى للتكامل والتعاون مع الدول الإقليمية، خاصةً في مجالات الاقتصاد والدبلوماسية، التي ستحوِّل السياسة الإقليمية من التفاهم المدفوع بالمصالح الأمنية المشتركة إلى علاقة أكثر مرونة ذات قيم مشتركة. وظهرت بالتبعية سياسة “صفر مشاكل”، التي صاغها “أحمد داود أوغلو”.
في الفترة الثانية، ومع تزايد قوة تركيا الاقتصادية ودورها كوسيط سلام في المنطقة، بدأت أنقرة في تعميق علاقاتها مع الشرق الأوسط، وتزايدت “الاستقلالية الاستراتيجية” لتركيا في هذه الفترة تدريجيًا بفضل تنويع أنشطة السياسة الخارجية مع مختلف المناطق، وبدأت في منح قضايا الشرق الأوسط الأولوية على توجهها الغربي. أمّا في الفترة الثالثة –والمستمرة إلى الآن- فقد سعت تركيا لتكثيف علاقاتها مع الدول العربية.
وقد تطورت أدوات تركيا خلال الفترة الثالثة، التي عاصرت موجات الربيع العربي، من السياسة السلبية الانفعالية، إلى سياسة الاستباق، وما تلاها من سياسة توسعية، والسعي وراء حصد النفوذ الإقليمي، لتصل إلى سياسة توسيع دائرة النفوذ العسكري والسياسي؛ كما اتضح في سوريا والعراق وليبيا.
ولكن يبدو مؤخرًا أن تركيا أدركت عدم جدوى هذه الأدوات وتلك السياسات، فاضطرت إلى التراجع –نسبيًا- عن السياسة التوسعية، لصالح أدوات التنسيق الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي. وخاصة مع تنامي اقتناع صانع القرار التركي بأن هذه الأدوات هي التي يمكن أن تحافظ على الدور التركي بالإقليم، وتجنب التعرض لعزلة إقليمية.
2- إعادة صياغة العلاقات مع دول المنطقة: بعد سنوات من الجفاء والتوتر، بدأت تركيا –جديًا- خلال الأشهر الأخيرة حملة دبلوماسية لتحسين علاقاتها مع دول المنطقة، وهي الحملة التي ارتبطت بتزايد التحديات التي تواجهها أنقرة، فضلًا عن تنامي التوترات بين تركيا والولايات المتحدة.
فقد عرفت المنطقة العربية في بداية عام 2021 مصالحة بين دول الرباعية وقطر حاولت طي صفحة الخلافات، وكانت هذه المصالحة بمثابة دافع محوري لتركيا، لتدرك أن تفويت قطار المصالحة يعني “فرصة مهدورة” لأنقرة، وخسارة فرص استثمارية واقتصادية كبيرة، وكذلك عزلة جديدة لتركيا بعيدًا عن المحيط العربي.
واقتصاديًا، وبعد المصالحة، أصبح الاعتماد على مشروع نقل الغاز من قطر لتركيا عبر إيران في مهب الريح، وأصبح من الأكثر حكمة لتركيا ألا تضع كل رهاناتها في مجال نقل الطاقة على هذا المشروع العملاق فقط، وأن تبدأ في التفكير في بدائل أخرى. ومن هذه البدائل محاولة كسب ود مصر للحصول على مساعدتها في عدة أمور، ومنها الحصول على مشاركة أكبر في غاز البحر المتوسط والذي تلعب فيه مصر دورًا محوريًا.
وفي هذا الإطار، يبدو أن الرئيس التركي أدرك أن أي تصعيد قد يُقدِم عليه في الملف التونسي، في ظل توافق المحيط الإقليمي والدولي مع قرارات الرئيس التونسي، يعني عودته إلى المربع “صفر” في علاقته بهذه الدول، وربما واشنطن أيضًا، مما يعني المزيد من الخسائر الاستراتيجية لتركيا.
3- العلاقات الاستراتيجية مع تونس: لا شك أن العلاقات المتميزة التي جمعت كلًا من تونس وتركيا على مدار السنوات السابقة تستند إلى التحالف الناشئ بين “أردوغان” و”الغنوشي”؛ إلا أن تونس ذاتها –وبغض النظر عن وجود حركة النهضة ضمن مكونات الحكم- تحمل خصوصية في علاقات تركيا الإقليمية. فقد صارت تونس مركز جذب للاستثمارات التركية ورجال أعمالها، وهذا يعكس رؤية تركيا إلى تونس على أنها من أهم دول المنطقة للاستثمار، وتُعد بديلًا مثاليًا لبعض البيئات الأخرى المضطربة. حيث يوجد في تونس اليوم نحو 50 مؤسسة اقتصادية تركية في مجالات متعددة، ساعدت في خلق 2500 فرصة وظيفية.
كما تمثل تونس المدخل المناسب لتعظيم التواجد التركي في منطقة المغرب العربي. ومن الجدير بالذكر أن أنقرة تحتاج إلى أسواق منطقة المغرب العربي، والتي ربما تكون هي الأخرى مدخلًا إلى أسواقٍ إفريقية جديدة. وبالفعل، وقّعت تونس وتركيا في ديسمبر 2020 اتفاقًا عسكريًا قدّمت تركيا بموجبه ما لا يقل عن 150 مليون دولار لتونس في شكل قروض من دون فوائد مقابل شراء معدات عسكرية تركية. وقد نصّ الاتفاق أيضًا على التعاون في قطاع الصناعات العسكرية، واستحداث منصات مشتركة للبحوث والتطوير وإنتاج قطع الغيار، والتصدير المشترك للمعدات العسكرية. ومن شأن هذا التعاون أن يسمح لأنقرة بإنشاء قاعدة صناعية متينة في تونس لتصدير معداتها العسكرية إلى جميع أنحاء المغرب العربي وإفريقيا.
ويبدو أن تركيا لا تنظر إلى تونس من زاوية استراتيجية واقتصادية فحسب؛ بل ترى أنها تُشكِّل عمقًا حضاريًا هامًا، يتفق فيه التونسيون والأتراك معًا. ومهما كانت طبيعة النظام في تونس وفي تركيا سيظل المشترك الحضاري والثقافي الجامع بين البلدين عاملًا مُساعدًا في تطوير هذه العلاقات. وفي هذا الإطار، يبدو أن الرئيس التركي “أردوغان” لم يُرِد أن يضع رهانه في تونس بالكامل على حركة النهضة، واتخذ موقفًا يسمح له بهامش من المناورة مستقبلًا، أيًا كانت القوى الحاكمة.
4- أهمية التنسيق مع تونس في الملف الليبي: منذ سقوط نظام “معمر القذافي” في عام 2011، تُقدم تركيا دعمًا لتيار الإسلام السياسي في ليبيا، ولمدينة مصراتة (أكبر داعم للإسلاميين بالغرب الليبي)، وبالتالي قدّمت دعمًا لتحالف “فجر ليبيا” في مواجهة “عملية الكرامة” بقيادة “خليفة حفتر”، وهو ما تسبّب في توتر علاقاتها مع الأخير والشرق الليبي بوجه عام. وبمرور الوقت صارت تركيا متورطة سياسيًا واقتصاديًا أكثر في ليبيا، من خلال تواجدها العسكري هناك، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقّعتها مع ليبيا، بجانب رغبتها في الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من مشاريع إعادة الإعمار.
وفي سبيل ذلك، كثفت تركيا تحركاتها تجاه دول الجوار الليبي، لتدعيم دورها ومكانتها هناك، وخاصةً تونس. حيث سعت تركيا لاستمالة تونس خلف أجندتها في ليبيا، وهو ما أظهره الانفتاح التركي المكثف على تونس والذي كانت أبرز ملامحه الزيارة المفاجئة للرئيس التركي إلى تونس في ديسمبر 2019، عقب أيام قليلة من إعلان الرئاسة التركية إمكانية إعداد مسوّدة قانون تتيح إرسال قوات إلى ليبيا دعمًا لحكومة طرابلس، لكن تونس رفضت تلبية الطموحات التركية، حيث أوضح الرئيس التونسي حينها أن الاتفاق الموقّع بين تركيا وليبيا والمتعلق بترسيم الحدود البحرية لا يمس تونس، ولم يكن مطروحًا في لقائه مع “أردوغان”.
ولكن ما زالت تركيا تحتاج إلى تونس في ليبيا، بدايةً من إمكانية تنشيط دورها في عملية إعادة الإعمار، بما يخدم المصالح التركية (في قطاعات الأمن والبناء والطاقة وقطاع المصارف)، وكذلك مساعدة تونس لأنقرة في مراقبة الحدود الليبية ضد التهديدات غير التقليدية، وتنشيط الموانئ التونسية باتجاه طرابلس الليبية.
لذلك، حتى وإن كان الدور التونسي حاليًا لا يُلبّي طموحات أنقرة في ليبيا؛ فإن خسارته ستمثل ضربة كبيرة للنفوذ والمصالح التركية في ليبيا بوجه عام.
إجمالًا، وبغض النظر عن التطورات التي ستشهدها الأزمة التونسية خلال الأيام المقبلة؛ فإن النظام التركي سيسعى بكل تأكيد للدفاع عن مصالح حليفه “راشد الغنوشي” وحركة النهضة، ولكن دون تصعيد يجعل علاقته المستقبلية بالدولة التونسية على المحك.