الخليج العربي والمسألة الشرقية الجديدة – الحائط العربي
الخليج العربي والمسألة الشرقية الجديدة

الخليج العربي والمسألة الشرقية الجديدة



خصَّص موسم أصيلة بالمغرب إحدى ندواته الرئيسية هذه السنة للخليج العربي والمسألة الشرقية الجديدة، في سياق التحولات الكبرى التي يعرفها العالَمُ راهناً بتأثيرها الحتمي على منطقتنا. ولا شك في أن اختيار راعي موسم أصيلة الثقافي الوزير المفكر محمد بن عيسى لموضوع المسألة الشرقية الجديدة عنواناً لرصد المعادلة الإقليمية الراهنة، مبررٌ موضوعياً بما لا يخفى على أحد. وهكذا شارك في الندوة عدد مهم من صناع القرار ورجال الفكر والإعلام والثقافة، وتعرضت نقاشاتها الحرة لمختلف جوانب وخلفيات هذه المسألة.
ومن المعلوم أن مفهوم «المسألة الشرقية» كان يعني في الأدبيات السياسية الغربية مقارباتِ واتجاهاتِ تَدخُّلِ القوى الأوروبية الكبرى في شؤون الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، بما نجم عنه إعادة تخطيط ورسم خارطة الشرق بمفهومه الأوسع الذي يشمل على الخصوص إقليمي البلقان والعالم العربي. وعلى الرغم من الحديث الرائج حالياً حول النظام الشرق أوسطي الجديد، فإن الأمر لا يتعلق في الحقيقة بمخططات دولية تعيد ترتيبَ وبناء المنظومة الإقليمية على غرار اتفاقيات سايس بيكو الشهيرة، بل بتحولات داخلية وتأثيرات خارجية غيَّرت جوهرياً تركيبة وضع المنطقة في الآونة الأخيرة. ويمكن في هذا السياق الوقوف عند أربع تحولات كبرى، تستدعي الاهتمام والنظر:
أولا: الأزمة العميقة التي دخل فيها النظام الإقليمي العربي بعد أحداث ما عرف باسم «الربيع العربي» وما آلت إليه من فراغ استراتيجي هائل نجم عن خروج عدد من الدول المحورية من مركز التأثير والقوة. وقد استفادت القوى الشرق أوسطية غير العربية من هذا الفراغ المخيف، ولولا الدور الفاعل الذي لعبته المنظومة الخليجية في انتشال الدائرة العربية وإعادة ترميمها لكان البناء الإقليمي كله قد تصدّع وانهار كلياً. ثانياً: برزت بقوة معادلةُ شرق المتوسط الجديدة التي تتوقف عليها العلاقات الشرق أوسطية الأوروبية ومنزلة العالم العربي فيها. ومن المعروف أن الدائرة الشرقية المتوسطية تشمل بالإضافة إلى سوريا ولبنان بلدان شمال أفريقيا العربية (مصر ودول المغرب العربي)، وكذلك تركيا واليونان بامتداداتهما في الفضاء البلقاني. ولقد طرحت بقوة مشاكل الطاقة والأمن والهجرة في هذا المجال الحيوي الذي هو أحد المداخل الجيوسياسية المحورية لأمن واستقرار الخليج العربي.
ثالثاً: من الواضح أن الصراع الدولي الجديد الذي انجر عن الحرب الأوكرانية الأخيرة قد انعكس بقوة على المسألة الشرقية الجديدة من وجهين بارزين هما: التوجهات الروسية الجديدة التي حسمت الجدل الاستراتيجي المندلع بعد نهاية الحرب الباردة في اتجاه تموقع روسيا الشرقي على حساب هويتها الأوروبية الغربية، وتضارب المصالح الإقليمية بين القوى الشرقية الكبرى بما فيها العالم العربي والدول الغربية الكبرى. لقد ظهر بجلاء أن البلدان العربية المؤثرة، بما فيها المنظومة الخليجية، نأت بنفسها عن هذا الصراع واختارت الحفاظ على علاقات متوازنة بالأطراف المتصادمة كلها دون انحياز، انسياقاً مع مصالحها الموضوعية.
رابعاً: مع أن المسألة الشرقية الجديدة محصورة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، فإن امتدادات هذه المسألة في شرق آسيا وجنوبها لا يمكن تجاهلها. لقد شاعت في أيامنا الأدبيات التي تتحدث عن «العصر الآسيوي الجديد» واستفاقة «المارد الصيني»، وكتبت أقلام عربية عديدة حول ضرورة الاندماج في هذا العصر الآسيوي والاستفادة من الصعود الصيني الخارق. قد يكون من التسرع اعتماد هذه المقاربة السهلة التي تعترضها عوامل موضوعية معقدة، بيد أنها تشكل دون شك سياقاً محدِّدا ومؤثراً في المسألة الشرقية الجديدة.
لقد كتبت مرة في هذه الصفحة أن فكرةَ العروبة في مقوماتها الاستراتيجية تحتاج إلى إعادة تصور وبناء، لا تخلياً عنها وتنكراً لها (إذ ما تزال حسب اعتقادي فكرة راهنة لها كثافة مستقبلية حقيقية)، وإنما تكييفاً لها مع الواقع الإقليمي والدولي الجديد والتحديات الكبرى التي تعرفها منطقتُنا. لقد بدا لي أن هذه الفكرة تحتاج إلى التطوير والإغناء، من خلال التوسع نحو الدوائر الإقليمية التي تتداخل بقوة مع أوضاع العالم العربي، مثل فضاء البحر الأحمر وشرق المتوسط وغرب المحيط الهندي.
إن هذه الدوائر هي دون شك العمق الاستراتيجي العربي الذي لا يمكن تجاوزه في أي رؤى أو مقاربات جيوسياسية رصينة ومتناسقة. وهكذا نخلص إلى أن المسألة الشرقية الجديدة من هذا المنظور هي التعبير عن الأفق الجديد للنظام الإقليمي العربي في تفاعله الحي مع أوضاع العالم الراهن. وقد كانت ندوة أصيلة سبّاقةً في تناول هذا الموضوع الحيوي.

نقلا عن الاتحاد