قبل أكثر من ثلاثة عقود أقدم صدام حسين على مغامرة مجنونة بغزوه دولة الكويت. كانت كارثة وخطيئة أحدثتا تمزقاً في النسيج العربي، وتجربة مريرة لا تغادر الذاكرة العربية. كشف لنا آنذاك عن حقيقة غفل عنها الخليجيون في أن مصير دول الخليج هو واحد، وأن ما يمس أمن إحداها سينعكس بالتالي على بقية شقيقاتها، ثم لم تلبث أن تلتها أحداث البحرين لترسخ تلك النظرية وتجسد حجم المخاطر التي تواجهها دول الخليج بدليل الطابور الخامس الذي موّلته طهران وتم اكتشافه قبل سنوات عبر خلايا تجسسية في بعض دول الخليج، ناهيك عن التغلغل الإخواني الذي جاء عبر فئة مؤدلجة تبين انتماؤها للجماعة قبل الوطن، وهمّها الوحيد هو الاستيلاء على السلطة. مواجهة هذه التحديات وتجاوزها قد يفسر بوضوح بقاء كيان دول مجلس التعاون الخليجي رغم كل ما مر به من أزمات وفترات صعبة.
قبل أيام أعلنت الجزائر قطع علاقتها الدبلوماسية مع المغرب؛ ما آثار حالة من التشاؤم والقلق حول مستقبل العلاقات بين البلدين وتأثيرها على الصعد كافة، ومن الطبيعي أن تنتاب الشعوب العربية تلك المشاعر جراء ما حدث من تطورات وتعكس استشعارها بضرورة معالجة الخلافات العربية – العربية من أجل حماية المنظومة العربية. المقام هنا ليس الدخول في صميم الإشكال والتصريحات المتبادلة ما بين البلدين الشقيقين؛ لأن كل طرف لديه من الحجج والأدلة على ما يقول، وهذا ليس قضيتنا هنا ولا محور اهتمامنا بقدر ما أن المهم ألا تكون هناك قطيعة دبلوماسية بين دولة عربية وشقيقتها الأخرى؛ فاختلاف وجهات النظر أمر متصور وطبيعي، ولكن الخشية من الوصول إلى مرحلة الخلاف وبالتالي القطيعة، وهذا ما حدث وهو ما لا يتمناه أي عربي لأن الشرخ ينعكس على النسيج العربي بمجمله وأمنه القومي.
المعضلة تكمن في أن بعض الأزمات العربية قد استفحلت؛ كونها تراكمت عبر السنين ولم تُعالج حين نشوئها، وتاهت في عالم المجاملات والتسويف والتأجيل والمواربة مثل الخلاف الجزائري – المغربي رغم حدوث محاولات اختراق وصلح في فترات سابقة كما فعل الراحل الكبير الملك فهد بن عبد العزيز.
في تقديري، التعاطي مع هكذا إشكالية يحتم علينا ضرورة الاستعانة بما يسمى إدارة الأزمات – التحالفات داخل المحيط العربي. هذا الأسلوب كما أرى يقطع الطريق مباشرة على أي تفاقم قد يعتري العلاقة والمصالح، وخصوصاً أن عالمنا العربي لم يعش ومنذ التحرر من الاستعمار حالة من الانكشاف كما يعيشها اليوم. إدارة الأزمات كما أتصور تستند إلى رؤية منهجية وآليات وبروتوكولات محددة يتم استخدامها وتدخلها مباشرة عبر لجان محايدة ومقبولة من الأطراف المتنازعة، وتكون تحت مظلة الجامعة العربية، حيث يقبل الطرفان ويلتزمان بما ينتج منها من قرارات. وللدول العربية أن تصوغ جملة من عناصر الالتقاء والتقارب في منظومة تعاونية نفعية منطلقة من وعي الشعوب وتنظيمه في أشكال مصالح متبادلة.
هذا يقودنا للحديث عن جامعة الدول العربية التي هي في حاجة إلى مراجعة دورها وتفعيل مهامها، خصوصاً بعدما أثبتت عدم قدرتها أو عجزها لحل تلك الأزمات، وعلى الرغم أن معظم الدول العربية تتفق على التحديات والمخاطر المشتركة، لكنها بالمقابل لا تفعل شيئاً تجاهها؛ ما يعني أهمية توفر الإرادة السياسية وهي المحصلة والارتكاز الذي تستند إليه جامعة الدول العربية بما يدفع باتجاه الوصول لحلول وتسويات. الأمر الآخر، هو أن نظام الجامعة الحالي لا يواكب المرحلة، وقد أخذ في التآكل والذوبان. النظام الإقليمي العربي الراهن عجز عن القيام بوظائفه الأساسية كالأمن الجماعي العربي أو التكامل الاقتصادي، أو حتى التنسيق في السياسة الخارجية؛ ما فتح الباب لقوى إقليمية غير عربية لتشرع بملء الفراغ. المثير للدهشة أنه عندما تُطرح صراعات العرب ومشكلاتهم للنقاش والبحث والمعالجة تجد تدخلاً وتعليقاً وحضوراً من أطراف ومشاركين وفاعلين، ولكنهم للأسف من غير العرب في حين لا وجود لدور عربي فاعل.
غياب الاستراتيجية العربية ساهم في تعميق الشرخ؛ ما وفر الفرص لتلك القوى دولية كانت أم إقليمية في المنطقة لصناعة عمق استراتيجي وفق أجندتها وعبر الضغط في مناطق عربية مجاورة لها أو من خلال تعميق الخلافات والصراعات العربية – العربية.
التحولات التي طرأت على السياسة الإقليمية والدولية أدت بطبيعة الحال إلى تداعيات أمنية وسياسية على المنطقة العربية بدليل تأثر الأمن القومي العربي وتراجع المصالح العربية في مقابل الاستفادة لدول إقليمية غير عربية وتصدع الداخل العربي بسبب التدخلات الخارجية، والأهم من كل هذا تهميش الدور العربي وانخفاض تأثيره في معادلات النزاع والصراع والاستقرار في المنطقة. من المهم أن ترتهن الدول العربية للحوار والمصالحة والنقاش والبحث عن مخارج وتسويات سياسية لأي خلاف ووقف الصراعات البينية والمواقف المتباينة إزاء القضايا الكبيرة من أجل تقليل المخاطر الناتجة من التحولات في السياسات الدولية والإقليمية.
نقلا عن الشرق الاوسط