التوجهات الدولية والإقليمية في الجمعية العامة – الحائط العربي
التوجهات الدولية والإقليمية في الجمعية العامة

التوجهات الدولية والإقليمية في الجمعية العامة



دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة شهدت لحظات تاريخية، وكلمات عكست تغيرات في السياسات والتوازنات الدولية، منها على سبيل المثال كلمة الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف عام 1988 وطرحه للـ “بيريسترويكا”، ومشاركة زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا عام 1990 حول القضاء على التمييز العنصري، ومن قبلهما عام 1974 مشاركة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رافعاً غصن الزيتون رمزاً للسلام.

وهناك العديد من الأمثلة الأخرى للأحداث والخطب المهمة، مواقف في كثير من الأحيان لم تحظ بارتياح الدول الكبرى على اعتبار أنها محاولات لدمقرطة العلاقات الدولية مع زيادة أصوات دول نامية كثيرة، مما جعلها تبتعد مع الزمن من العمل متعدد الأطراف، وتركز في الجمعية العامة على تسجيل وتبرير المواقف، وانتشرت التجمعات الدولية محدودة العضوية، بين ما يسمى الدول المتوافقة في الرأي أو تجمعات متخصصة بين دول بعينها مثل دول الصناعة الكبري G20.

مع هذا ظلت الجمعية العامة مهمة، وشهدنا تواصلاً في حضور الدول وعلى مستويات عليا على الرغم من الصعاب والاختلافات، لأنها منصة يتساوي فيها الجميع، على الأقل من حيث الشكل، بصرف النظر عن قوة الدول أو غناها أو توجها السياسي، وعملت كثير من الدول على استغلال هذا التجمع الخريفي في نيويورك لترتيب لقاءات ثنائية وإقليمية، أي تحت مظلة العمل متعدد الأطراف، بخاصة أن توتر العلاقات بين كثير منها كان يصعب ترتيب اللقاءات الثنائية أو الإقليمية المباشرة بينها.

اهتم المجتمع الدولي بالجمعية العامة هذا العام بعد انقطاع وعدم استقرار في الترتيبات الصحية الدولية وضوابط وقيود السفر وترقب الموقف الأميركي، وطرح رئيسه جو بايدن بعد سنوات ترمب التي اتسمت بعدم الارتياح الأميركي للمنظمة وللعمل الدولي الجماعي، ويشكك بعضهم في صدقية رسالة بايدن، وتأكيده أن “أميركا عادت” إلى الساحة الدولية، بخاصة مع وجود توجه انعزالي متنام لدى الرأي العام الأميركي، وعناصر ضاغطة داخلياً وخارجياً منذ توليه السلطة، مثل جائحة “كوفيد-19″، فضلاً عن الخروج المرتبك من الساحة الأفغانية، وتعثر مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران حتى الآن، وتحدث آخرون وكانوا محل اهتمام، خصوصاً الرئيس الإيراني رئيسي المنتخب حديثاً، الذي ألقى خطاباً متشدداً في منهجه وتوجهه وصياغته من جانب، وأكد انفتاحه على العمل الدبلوماسي من جانب آخر، مما ترك مزيداً من الأسئلة بدلاً من الإجابات.

أثناء مشاركاتي المتعددة في اهتمامات الجمعية العامة خلال عملي دبلوماسياً ووزيراً، تابعت التحول في الاهتمام الدولي، وكنت دائماً أخرج بشعور مزدوج ومتناقض بأن كثيراً من الخطب والمواقف مكررة ومملة، ومن جانب آخر فإن ضيق الوقت وزحمة العمل لم تسعني لمتابعة بعض الخطب المهمة، التي تعكس بداية توجهات جديدة في الساحة الدولية، وإنما كنت أقدر دائماً الفرصة التي توفرها الجمعية العامة لعقد اجتماعات مباشرة مع عدد من الوزراء، وفي إحدى الدورات عقدت أكثر من 80 لقاء خلال أسبوع عمل واحد لم يتجاوز خمسة أيام.

 تابعت اجتماعات الجمعية العامة لعام 2021 باهتمام، للاعتبارات سابقة الذكر، وكذلك لأنها تعقد بحضور شخصي يوفر فرصة للقاءات واجتماعات جانبية بعد غياب طال نتيجة للجائحة، وركزت بصفة خاصة على ما يرتبط بالشرق الأوسط.

‏وليس من المبالغة ‏القول إن كثيرين ‏كانوا يتطلعون إلى تقدم أو تحرك في المسار الفلسطيني – الإسرائيلي بعد خسارة ترمب ونتنياهو الانتخابات، وهناك بعض التقدم في التعامل الإنساني الأميركي ‏والإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، من حيث دعم وكالة إغاثة اللاجئين وتوفير التطعيمات بعد الجائحة،‏ وإنما لم يرتق هذا التقدم إلى المستوى المطلوب لإنهاء معاناة هذا الشعب ‏عبر أكثر من 70 عاماً، ‏وهناك ترحيب بعودة ‏الجانب الأميركي لدعم حل “‏الدولتين”، ولم يتطرق الموقف الإسرائيلي بإيجابية إلى الحقوق السياسية الوطنية المشروعة، لأن التحالف الحكومي ‏الإسرائيلي هش للغاية، ويجمع من المتناقضات السياسية فقط من أجل البقاء في الحكم، بل حصل تراشق بين أبو مازن ‏الذي حدد مدة زمنية لعام واحد لاتخاذ قرارات حاسمة، ورئيس وزراء إسرائيل بينت الذي حذره من تحديد ‏أهداف وآمال لن تتحقق وتشكل حرج للقيادة الفلسطينية.

وأسعدني ترتيب لقاء شمل العديد من الدول العربية مع تركيا ‏وإيران باستضافة العراق، وهي خطوة مهمة أؤيدها تماماً، ‏بل دعيت إليها شخصياً مكرراً ‏منذ أكثر من عام، فجمع اللقاء ‏دول تصارعت في الأعوام السابقة، ‏حول التعامل مع الإسلام السياسي، أو في تنافس على المكانة الإقليمية في المنطقة، وقد سبقه تطور في الاتصالات الثنائية ‏بين مصر وتركيا والسعودية وإيران وغيرها، ‏والاتصالات غير المعلنة الأمنية وبين مراكز البحوث والقطاع الخاص.

وأقدر تماماً أن الخلافات بين الدول العربية وجيرانها من غير العرب بالغة الحساسية والتعقيد، ‏مما يتطلب عدم المبالغة في التفاؤل أو توقع التغلب على كافة المشكلات ‏سريعاً، حتى إذا تم استئناف العلاقات بينها على المستوى الرسمي، ولا أرى سبيلاً أفضل من التفاعل المباشر مع تلك المشكلات والمصارحة الكاملة والتفاوض الشاق، ‏لأن الصدام مكلف وغير مجد والاعتماد على الغير أكثر من اللازم غير مفيد بل مضر، “فنحن في عصر ‏عولمة الأسواق وأقلمة ‏القضايا والنزاعات”، لذا أدعو إلى مزيد من تلك الجهود والمسارات، مع أهمية تكثيف الاتصالات العربية بين الدول الرئيسة في هذه المحاور، ‏للحاجة الماسة للتشاور المسبق والشفاف، تأميناً لأفضل الحلول والاستراتيجيات، حتى إذا اختلفت بعض الأولويات المرحلية.

وتابعت اللقاءات العربية التي تتم مع ممثلي سوريا بخاصة، وطالبت مسبقاً بتحرك وخطوات سوريا ‏تجاه أخواتها العرب وتحركاً عربياً مقابلاً، ‏بما يسهل توفير الحد الأدنى المطلوب للانخراط العربي السوري، والذي آمل أن يتقدم بخطى ‏متدرجة، وقد سعدت ‏بعقد وزراء خارجية مصر وسوريا ‏اجتماعاً معلناً رسمياً خلال الجمعية العامة، وقد سبقته لقاءات عربية أخرى مع وزير خارجية البحرين السابق، ولقاءات سورية عربية رسمية على المستوى الأمني، ‏وزيارة وزير الدفاع السوري للأردن، واتصالات أمنية مختلفة غير معلنة، ومشاورات غير رسمية بين القطاعين الحكومي والخاص حول مشاريع مختلفة، وأرى أن هذا المسار والتطور العربي السوري ‏في مصلحة سوريا والدول العربية، ‏وقد يكون مخرجاً أيضاً للعلاقات السورية الدولية، فغني عن التنويه أن تمرير الغاز المصري إلى لبنان ‏عبر سوريا لم يكن يتحقق من دون موافقة ضمنية من أميركا وروسيا، ويجب أن تتواصل هذه الجهود وتستمر لمصلحة استقرار المنطقة وحماية المصالح العربية الاستراتيجية، وبعيداً من معادلات وحسابات الغالب والمغلوب، ‏فسوريا والعالم العربي أجمع دفعا الثمن غالياً في تطورات المشرق، والكل مستفيد من إعادة التواصل المتدرج والمبني على أسس حضارية جديدة، تراعى في المقام الأول مصالح الشعوب الأخوية.

نقلا عن اندبندنت عربية