نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 1 فبراير 2023، جلسة استماع بعنوان “تحولات الديموغرافيا: التأثيرات المختلفة لأزمات السكان في المنطقة العربية”، واستضاف المركز الدكتور أيمن زهري، خبير السكان ودراسات الهجرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عددٌ من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذة نادين المهدي، والأستاذ محمد عمر.
ملامح رئيسية
يُحدد “زهري” عدداً من الملامح الرئيسية للتحولات الديموغرافية في دول المنطقة العربية في العشرية الثانية والثالثة من القرن الحالي، وأبرزها:
1- ارتفاع عدد سكان المنطقة العربية: بلغ إجمالي سكان المنطقة خلال عام 2020 نحو 436 مليوناً، بينما سجل عدد السكان خلال عام 2010 نحو 355 مليوناً، بزيادة مطلقة قدرها 81 مليون نسمة، بزيادة سنوية تتجاوز ثمانية ملايين نسمة، ربعها تقريباً في مصر.
ويتوقع ارتفاع سكان العالم العربي ليصل إلى نحو 520 مليوناً خلال بحلول عام 2030، بزيادة إجمالية تقدر بنحو 84 مليون نسمة، وفقاً لتقديرات السكان الصادرة عن قسم السكان بالأمم المتحدة.
2- ست دول تمثل الثقل السكاني بالمنطقة: تُصنف ست دول عربية وهي: مصر، والجزائر، والسودان، والعراق، والمغرب، والسعودية، على الترتيب، بأنها دول “ذات الكثافة السكانية”؛ إذ إن مصر تجاوز عدد سكانها 100 مليون نسمة عام 2020، مقارنة بحوالي 80 مليون نسمة عام 2010، ويتوقع أن يصل عدد سكانها إلى 120 مليون نسمة بحلول عام 2030، فيما تتساوى الجزائر والسودان في عدد السكان عام 2020بنحو 44 مليون نسمة لكل من البلدين، ويتوقع ارتفاع عدد سكان السودان لأكثر من 55 مليون نسمة، والجزائر إلى نحو 50 مليون نسمة خلال عام 2030، فيما يأتي العراق والمغرب والسعودية في المراتب الرابعة والخامسة والسادسة على الترتيب.
ويبلغ إجمالي عدد سكان الدول الست أكثر من 300 مليون نسمة، أي ما يقارب 70% من إجمالي سكان العالم العربي عام 2020.
3- تركيبة سكانية ضاغطة على الدول العربية: يختلف الوضع في المنطقة العربية عن أوروبا، التي يمثل فيها كبر السن (65 سنة فأكثر) أكثر من 20% من التركيبة السكانية، أما التركيب العمري للسكان في العالم العربي فنجد أن نسبة السكان أقل من 15 عاماً يمثلون 32.6% من إجمالي سكان العالم العربي، بما يعني أن نحو ثلث سكان العالم العربي من الأطفال، وإن كان من المتوقع انخفاض تلك النسبة إلى أقل من 30% بحلول عام 2030، في ظل ارتفاع معدلات الخصوبة.
ولكن لهذه التركيبة الضاغطة تداعياته لما تمثله من عبء على المواد الاقتصادية للدول وضغط على قطاعات التعليم والصحة والرعاية الأساسية، خاصة في ظل أزمات عالمية لها انعكاساتها على المنطقة خلال الفترة الحالية.
4- معضلة استثمار “الهبة” الديموغرافية: رغم ارتفاع معدلات الخصوبة في المنطقة العربية، واعتبار المجتمعات العربية عموماً مجتمعات “فتية”، بفعل الزيادة في نسبة السكان في الفئة العمرية المنتجة من (15 – 64 عاماً)، بما يمثل نحو 62.7% من إجمالي السكان في المنطقة العربية عام 2020، مقابل أن فئة كبار السن (64 عاماً فأكثر) أقل من 5% من إجمالي السكان، إلا أن تلك المجتمعات تمثل أعباء على الدول، في ظل ضرورة توفير فرص عمل لاستيعاب التدفقات المتلاحقة الداخلة إلى أسواق العمل سنوياً.
وتُصنف أدبيات السكان هذه الفئة العمرية القادرة على الإنتاج بـ”الهبة أو الفرصة الديموغرافية”، على اعتبار أن المجتمعات يمكن أن تنطلق من خلالها نحو تحقيق التنمية الاقتصادية، اعتماداً على قاعدة ضخمة من السكان؛ إلا أن العوامل الاقتصادية الهيكلية والاضطرابات السياسية التي شهدتها بعض الدول العربية خلال العشرية الماضية حالت دون استثمار تلك “الهبة”، بل وكانت النتائج عكسية تماماً.
إذ كان يعول على تلك الفئة الضخمة في إحداث نقلة بالمنطقة العربية، مثل ما تحقق في بلدان ما يطلق عليها بـ”النمور الآسيوية”، التي تمكنت من استغلال تلك الهبة، وأحسنت تأهيل العنصر البشري وتوظيفه في النهضة الاقتصادية.
خلل ديموغرافي
يشير “زهري” إلى عدد من مظاهر الخلل الديموغرافي في التركيبة السكانية في دول المنطقة العربية، كالتالي:
1- تصدر ظاهرة “البروز الشبابي” بالعالم العربي: بالنظر إلى التركيبة السكانية في المنطقة العربية، نجد أن هناك انبعاجاً في قاعدة الهرم السكاني، التي تمثل الفئات العمرية لصغار السن، ويرجع هذا إلى ارتفاع نسبة الأطفال في المجتمعات، الناتجة عن استمرار ارتفاع الخصوبة في الفترات الزمنية السابقة، كما يُلاحظ تضخم الفئات الشبابية للسكان (15 – 24 عاماً)، في الأعوام بين 2010 و2020، ويتوقع استمرار تلك الظاهرة في المستقبل بحلول عام 2030، وهو ما يسمى بظاهرة “البروز الشبابي”، بما يعني زيادة معدلات الشباب عن قاعدة الهرم السكاني، مع الإشارة إلى أن بروز فئة الشباب مع عدم توافر الرعاية الكافية لهم، يؤثر سلباً على جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وربما الاستقرار السياسي.
2- تزايد النزوح واللجوء الخارجي في سوريا: تشهد بعض الدول العربية التي شهدت اضطرابات ونزاعات مسلحة وحروباً خلال العشرية الماضية،تحديات ديموغرافية كبيرة، في ظل التحركات السكانية الكثيفة مثل سوريا، ومن المتوقع أن يظل هذا التحدي الديموغرافي مستمراً خلال الفترة المقبلة، وتحديداً على مستوى عنصرين رئيسيين؛ الأول يتمثل في زيادة معدلات النزوح داخل الدولة، أما الثاني فيتعلق بزيادة حركة اللجوء الكثيفة لخارج دول الأزمات العربية.
وتُعد سوريا -إلى حد كبير- مثالاً حياً لتأثير الصراعات السياسية على التركيبة الديموغرافية، إذ أسفرت الأزمة عن نزوح داخلي ولجوء خارجي ممتد، وشهدت سوريا تراجعاً في أعداد السكان المقيمين على أراضيها إلى 17.5 مليون نسمة عام 2020، بعدما سجلت نحو 18 مليون نسمة عام 2015، فيما يُقدر عدد اللاجئين خارج سوريا بنحو 6.7 ملايين لاجئ، معظمهم في تركيا ولبنان والأردن والعراق، فيما يبلغ عدد النازحين داخل الأراضي السورية نحو 6.7 ملايين نازح، وبالتالي يبلغ المتضررون من الحرب السورية نحو 13 مليون سوري، يمثلون أكثر من نصف عدد السوريين تقريباً.
3- إدارة خليجية ناجحة لاستقبال السكان: تشهد دول خليجية زيادة في أعداد سكانها من غير مواطنيها، وتُعد تلك الدول من “بلدان الاستقبال” للفوائض الديموغرافية لدول أخرى. ولأن عادات وثقافات دول الإرسال والاستقبال للسكان عادة ما تكون مختلفة، وبالتالي فإن الهجرة تفترض نظرياً أن تؤدي إلى اختلاط تلك الثقافات وتعايشها معاً، إلا أنها قد تنشأ عنها مشكلات في ظل اختلافات كبيرة بين ثقافات الوافدين ومواطني بعض دول الخليج، ولكن نجحت بعض دول الخليج في إدارة ملف استقبال السكان الوافدين، وتقديم نموذج من التعايش والاحترام المتبادل، وتحديداً النموذج الإماراتي.
4- نجاح عراقي في إعادة توطين النازحين: حقق العراق نجاحاً كبيراً في ملف إعادة توطين النازحين داخل الأراضي العراقية، بعد النشاط الإرهابي لتنظيم “داعش” عام 2014، وما ترتب عليه من زيادة النزوح من المناطق التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي، قبل أن يتمكن العراق من إعادة نحو 5 ملايين نازح إلى مناطقهم أو إلى مناطق بديلة، من أصل 6 ملايين نازح؛ إذ لم يتبق سوى مليون نازح فقط لإعادة توطينهم.
ولا يزال العراق يواجه أزمات اللاجئين إلى خارج الدولة، خاصة مع ارتفاع معدلات الرغبة في الهجرة، وهو ما اتضح من خلال أزمة المهاجرين بين بيلاروسيا وبولندا، وكان من بين الضحايا مهاجرون عراقيون، إضافة إلى أزمة عبور المانش بالقوارب، وراح ضحيتها شابة عراقية في نوفمبر 2021.
5- تأثيرات الأزمة باليمن والوضع الهش بالصومال: أسفر الصراع الدائر في اليمن خلال السنوات الماضية، عن تشريد أكثر من أربعة ملايين يمني، اضطروا إلى النزوح إلى أماكن أخرى داخل اليمن. ويبلغ النازحون في اليمن نسبة 23% من إجمالي عدد النازحين في العالم العربي، الذين يبلغ عددهم نحو 18 مليون نازح.
كما تشهد الصومال موجات نزوح كبيرة أيضاً، وبها نحو 3 ملايين نازح، بسبب الوضع الهش فيها، كما أن السودان أيضاً يشهد تجدد المشكلات بين حين وآخر داخلياً، كما أنه يستقبل موجات لجوء خارجية من دول أخرى بالقارة الأفريقية.
مستقبل ضبابي
وأخيراً، يرى خبير السكان ودراسات الهجرة أنه في ظل التحركات السكانية الكثيفة وملايين اللاجئين والنازحين في المنطقة العربية، واستمرار الأزمات والحروب والخلافات في بعض دول المنطقة، مثل: استمرار الحراك السياسي بالسودان، وتأزم الأوضاع في العراق وسوريا، واستمرار الحرب باليمن، ومواصلة الزيادة السكانية في دول الثقل السكاني، وتباطؤ نمو اقتصاديات المنطقة؛ فلا يمكن توقع السير في طريق أفضل خلال الفترة المقبلة، إذ تشير المعطيات الحالية إلى استمرار الوضع الحالي المضطرب على المستوى الديموغرافي، وربما تفاقمه مستقبلاً.