على الرغم من أهمية مصالح الولايات المتحدة «الاستراتيجية»، وضرورة تعزيز نفوذها الجيوسياسي، في خضم الصراع الإقليمي والدولي في منطقة الشرق الأوسط، يبدو أن الجانب الاقتصادي، وبالتحديد المالي، يساهم في ترجيح بقاء القوات الأميركية في شرق سوريا، حيث تضمنت موازنة وزارة الدفاع للعام الحالي بنوداً تنص على تمديد صلاحيات البنتاغون في تقديم الدعم للفصائل السورية المعارضة. ويشمل ذلك تخصيص مبلغ 177 مليون دولار للوحدات المقاتلة ضد تنظيم «داعش». ويذهب الجزء الأكبر من هذا المبلغ إلى «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، وهو منخفض مقارنة بالعامين السابقين (200 مليون دولار في 2021، و300 مليون دولار في عام 2020).
ولم تكشف واشنطن عن حجم قواتها في سوريا، لكن بعض المصادر وصفتها بأنها «رمزية»، وحددتها بنحو 900 جندي في 28 موقعاً عسكرياً أهمها: قاعدة حقل كونيكو للغاز شمالي شرق دير الزور، وحقل العمر النفطي وهو مقر قيادة التحالف الدولي، وقاعدة التنف العسكرية على الحدود السورية الأردنية، وهي القاعدة الأكبر وقد أنشأتها هذه القوات عند تدخلها لحماية حقول النفط ولإعاقة طموحات روسيا، ولتبديد حلم إيران بإيصال الغاز إلى شواطئ المتوسط عبر العراق والبادية السورية وصولاً إلى بيروت، وقطع الطريق عليها في حال التصعيد العسكري إذا ما فشلت مباحثات الملف النووي.
وتبرز أهمية القرار المالي، كونه أتخذ في وقت تعاني فيه الخزانة الفيديرالية أزمة مالية حادة اضطرتها لتغطية نفقاتها وسداد الديون المستحقة عليها، إلى أخذ موافقة الكونغرس في منتصف ديسمبر الماضي على رفع سقف الدين بمقدار2.5 تريليون دولار إلى 31.4 تريليون دولار. وتمكن بذلك من تجنب خطر تخلف كارثي عن الدفع، لأكبر قوة اقتصادية في العالم.
وللتدليل على أهمية الكلفة المالية في استراتيجية واشنطن، يتوجب على وزير الدفاع تقديم تقرير عن وفورات التكلفة المقدرة نتيجة الانسحاب الكامل (المحتمل) من العراق وسوريا، مقارنة بالنفقات التي كلّفها التواجد في هذه المناطق عام 2021. وكذلك التكاليف التقديرية لتعويض الانسحاب، بزيادة الفاعلية التقنية، وعدد السفن، وتطويرها وتزويدها بمعدات جديدة، والطائرات والأسلحة النووية، إضافة إلى تكلفة عمليات التشغيل.
لقد سبق أن حذّر المبعوث الأميركي جيمس جفري من أن «استراتيجية واشنطن لبقاء القضية السورية في الخلف، ستزيد من التوغل الروسي والإيراني في سوريا». ويأتي القرار الأميركي، للرد على «التوسع الروسي»، حيث تسعى موسكو من خلال التحالف مع «قسد» لتحقيق حلمها بالسيطرة على شرق الفرات بكل الأساليب، وإبرام تفاهمات سياسية وعسكرية معها، لتمكين الحكومة السورية من استعادة تلك المناطق الغنية بالنفط والمياه والزراعة، وتطبيق الحل السياسي وفق الرؤية الروسية.
وإذا كان الهدف المعلن للولايات المتحدة مكافحة الإرهاب ودعم الاستقرار واستمرار تدفق المساعدات الإنسانية، لكن رغبتها الحقيقية تبقى في تطلعها لعدم إخلاء هذه المناطق لخصومها الروس والصينيين والإيرانيين، بل وحتى لحلفائها الأوروبيين، كي يملؤوا الفراغ الذي يمكن أن تخلفه، نظراً لأهميتها الجيوسياسية، ما جعلها نقطةَ جذب لكل القوى العالمية.
لذلك كان من الطبيعي أن تشهد تلك المنطقة صراعاً تاريخياً، كونها «عقدة الوصل» بين غرب آسيا وشرق أفريقيا وجنوب أوروبا. وهي تمتد على مساحة شاسعة تشمل شمال شرق الأردن وغرب العراق، وقربها من إسرائيل وإيران وتركيا. وتعود صراعاتها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، بين القوتين العظيمتين آنذاك، الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية ثم البيزنطية، نتيجة موقعها الجغرافي، وأهميتها الاقتصادية، باعتبارها واحة لعبور القوافل التجارية وإحدى محطات طريق الحرير القديم. حتى أن الملكة زنوبيا أدركت أهميتها، واستطاعت أن تحدِث خللا في صراع الإمبراطوريات، بإقامة دولتها في البادية السورية وعاصمتها تدمر.
نقلا عن الاتحاد