أصبح العالم غير ذلك الذي عرفناه، فلم تفلح «العولمة» في منع الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، ولا الاعتماد المتبادل في مجال الطاقة من الاشتباك والحرب في أوكرانيا، ولا كلاهما- العولمة والاعتماد المتبادل- من مطالبة الصين بمراجعة النظام الدولى الذي عرفناه تحت قيادة واشنطن. ولم تفلح الديمقراطية والليبرالية في أوكرانيا في حل معضلات «المواطنة» في الدولة، فانقسمت وتحاربت داخليًا قبل أن يحل التدخل الخارجى المسلح. وأصبح الثمن فادحًا ليس للدولتين المتحاربتين وحدهما، وإنما أصبح لدينا صراع عالمى يدفع ثمنه جميع دول العالم. ارتفعت أسعار الطاقة كما لم يحدث في التاريخ، ومعها أسعار الغذاء، والمعادن، وعانت سلاسل الإمداد الصناعى، وهى التي كانت تعانى منذ بداية «الجائحة»، وشكّل كل ذلك عبئًا باهظًا على الدول والشعوب. الاستجابة لهذه الحالة الجديدة يأتى فيها استشعار ما حذر منه بعض المفكرين من أن الصدام ما بين «النظام الدولى» القائم على الدول والقوميات والهويات والتنافس على النفوذ والهيمنة، و«النظام العالمى» القائم على العولمة الاقتصادية والسياسية وتفاعل الثقافات ليس ممكنًا فقط، بل إنه وارد بسبب ما هو كامن في أصول النظامين، وهو ما اتضح وانكشف خلال الصراع الحالى في أوكرانيا. وفى الشرق الأوسط فإن انعكاساته تبدّت في المفاجأة عند حدوث الحرب الأوكرانية، وفى المواقف المختلفة لدول الإقليم من طرفى الصراع الدائرة آثاره السلبية على اقتصاديات المنطقة وتفاعلاتها مع العالم الخارجى، والتى تراكمت كثافتها طوال السنوات والعقود الأخيرة.
هذه الحالة الدولية وآثارها السلبية على منطقة الشرق الأوسط كانت لها سوابق انقطعت فيها العلاقات أثناء الحرب مع مصادر مهمة للعيش عبر البحار، وكان الحل أو بعضه على الأقل قائمًا على التعاون الإقليمى لتجاوز الحالة العالمية البائسة. وأثناء الحرب العالمية الثانية وجدت بريطانيا، الدولة العالمية القائدة في ذلك الوقت، أنه لابد من وضع آلية يمكن من خلالها التعامل مع الأوضاع الاقتصادية المتعسرة بفعل عمليات الغواصات المتقاتلة في البحر الأبيض المتوسط. وفى إبريل عام ١٩٤١ أنشأت بريطانيا ما سُمى «مركز إمداد الشرق الأوسط أو «Middle East Supply Center أو MESC» لكى يوفر الحاجات الأساسية من الغذاء والدواء سواء كان ذلك بالاستيراد من مناطق أخرى، أو من خلال تشجيع الإنتاج المحلى، أو التعاون الإقليمى، الذي كانت نقطة البداية فيه بين مصر وفلسطين وسوريا. تمدد هذا المركز خلال فترة الحرب التي طالت، وخفف من آلامها عندما دخلت فيه دول أخرى، وتشجعت صناعات محلية على تعويض المفقود الناتج عن العمليات الحربية. انتهى عمل هذا المركز مع انتهاء الحرب، ولكن الجائز أن فكرة الحاجة إلى التعاون الإقليمى ظلّت باقية، وربما كانت من الدوافع وراء إنشاء الجامعة العربية فيما بعد.
ما حدث وما جرى سوف يكون قضية المؤرخين، ولكن الواقع الحالى للعلاقات الدولية المتطاحنة يأخذنا إلى ثلاثة خيارات: أولها أن تعتمد كل دولة من دول المنطقة على ذاتها بحيث تحقق الاكتفاء الذاتى في كل ما تحتاجه، وذلك له تكلفة وفاتورة عالية مع طول زمن تحقيق الغاية؛ وثانيها تشجيع دخول الصين إلى ساحة الدول العظمى في العالم، بحيث يكون العالم ثلاثى القطبية مع روسيا والولايات المتحدة، وذلك صعب ومعقد للغاية ليس فقط لأن التعامل مع عاصمة واحدة كان مرهقًا، والتعامل مع عاصمتين كان دائمًا حرجًا، والأرجح أن التعامل مع ثلاثة عواصم سوف يكون دومًا رهينة تعاون أو صراع اثنتين منها. وثالثها التعاون الإقليمى، الذي يأخذ من العالم تقدمه ومن الدولة هويتها، التي نمَت خلال عملية تاريخية تفاعلت فيها الدولة مع جيرانها بعدًا وقربًا. هذا الخيار جرى تبَنِّيه من قِبَل دول جنوب شرق آسيا في أعقاب الحرب الفيتنامية، وصراع العمالقة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) والتوتر والصراع الهندى الصينى، ولم يكن هناك بد من اتباع طريق قائم على السلام والوحدة الوطنية والإصلاح الاقتصادى في الداخل، وإقامة السلام والتعاون مع دول الإقليم. وكانت النتيجة أنه منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضى ونحن نسمع عن النمور والفهود الآسيوية التي تحقق معدلات عالية من النمو الاقتصادى، وإنهاء النزاعات الإقليمية التاريخية، ومعها منظمة إقليمية للتعاون هي «آسيان».
ما نحتاجه الآن في الإقليم للتعامل مع الأوضاع الخطيرة في العالم هذا الخيار الثالث من الإقليمية الجديدة، والذى تُقبل عليه دول الإصلاح الجاد في المنطقة، وتسعى منه إلى إقامة إطار للأمن الإقليمى يعترف بالحدود القائمة، ولا تتدخل فيه دولة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتُقام فيه المشروعات التي تحقق الرخاء للجميع.
نقلا عن الشرق الأوسط