خلال الأيام الماضية تبادل الناس في قارات العالم رسائل التهاني لمناسبة العام الميلادي الجديد. تمنوا بعضهم لبعض أن يكون عاماً أكثر بهجة وتطوراً وسعادة. أما معظم المواطنين العرب الذين يعيشون داخل خطوط الاضطرابات والحروب المستمرة منذ سنوات طويلة، ويعاني مواطنوها الدمار والقصف والحصارات الداخلية والخارجية والأزمات الاقتصادية الخانقة، فليس لديهم ما يبعث أملاً حقيقياً بأيام أقل بؤساً، عدا ما يبشر به المبعوثون الدوليون الذين يجوبون العواصم العربية حاملين حقائب الأوهام التي لم يتحقق شيء منها منذ سنوات.
سنوات عصيبة مرت على عواصم عربية كان بعض منها قاب قوسين أو أدنى للخروج من دورات الاضطرابات، فليبيا كانت على وشك إنجاز استحقاق تاريخي وخوض تجربة الانتخابات بعد عقود طويلة من الحكم الديكتاتوري الذي فرض فيه معمر القذافي نظرياته العجيبة واستنزف موارد البلاد في مغامرات طفولية، لكن الطموح الشخصي أفشل المسار وعاد بالبلاد للغموض والقلق.
ثم هناك تونس التي كانت تسير في مسارات آمنة أوقفها فجأة التنازع على قمة السلطة، ويحسب لها أنها لم تنزلق حتى الآن في دورات عنف وإن كانت تلوح في الأفق بسبب الإجراءات المقيدة التي نتابعها كل يوم.
لا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليرى تراكم الأخطاء التي تصعد الأخطار التي تحيط بالسودان ولبنان والصومال وسوريا والعراق، وكذلك التوتر بين المغرب والجزائر، وطبعاً اليمن، وكلها غير عصية على الحل إذا اتفقت الدول العربية المؤثرة للدفع نحو إيجاد حلول وطنية تبعدها من التأثيرات الإقليمية والدولية، وإذا ما استمر الاستقطاب داخل هذه البلدان فسيكون محتماً اشتداد عدم الاستقرار، وتسوء أحوال الناس في معظمها وتتزايد المصاعب المعيشية والاقتصادية.
في اليمن كانت الأعوام الماضية شديدة القسوة ومرت بائسة دموية مدمرة، ولا أجد ما يبعث على الأمل في أن يكون العام الجديد أقل بؤساً ودموية ودماراً، وسيبدأ العام 2022 بحروب وقصف متبادل بالموازاة مع مناشدات ودعوات ومبادرات وبيانات تدعو إلى وقف الحرب والدخول في مسار السلام، وسيظل الاختلاف في الموقف من الحرب وجدواها، وإذا ما كانت قد جرت لتحقيق أهداف غير وطنية كما يزعم بعضهم أو أنها كانت واجبة الحدوث والاستمرار لدرء أخطار أكبر كما يقول بعض آخر.
بعيداً من النظريات التي خلقت استقطابات داخل اليمن وخارجه في شأن الحرب، فإن الواقع المعاش يثبت أنها قذفت بالبلد، شعباً وأرضاً، إلى وضع كارثي غير مسبوق على الصعد كلها، سواء كانت معيشية أو سياسية أو اجتماعية أو مناطقية أو مذهبية، وكلها بلغت قعر عمق المجتمع اليمني فهزت الأسس التي تم التعايش معها ومن خلالها لعقود طويلة.
اليمن لا يحتاج إلى مبعوثين دوليين لحل المشكلات السابقة واللاحقة للحرب، ولم يعد من الجائز أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً الحديث عن حلول تجميلية لا تلامس بداية واقع الفقر والمعاناة والجوع الذي يتفاقم كل يوم، لكنه يحتاج إلى إرادة وطنية لتجاوز المصاعب التي تحول دون توقفها. ومع تيقن الجميع أن الحسم العسكري غير ممكن يرتفع صوت قادة الحرب منادين بأهمية العودة للمسار السياسي، وهم في حقيقة الأمر يفعلون ذلك في إطار الدعاية والدعاية المضادة.
إن المؤشر الحقيقي للرغبة في وقف الحرب والدخول في مسار سياسي جاد يبدأ بالإعلان عن فك الحصار الداخلي فوراً في مأرب وتعز، وتوحيد أعمال البنك المركزي وإعادة النشاط كاملاً لمطار صنعاء بعد أن ثبت أن إغلاقه لم يغير موازين القوة على الأرض، وكذلك ميناء الحديدة المنفذ الرئيس للمناطق التي يسكنها معظم المواطنين. إن هذه الإجراءات ستخفف بداية من معاناة الناس وتسهيل انتقالهم داخل البلاد والعودة لقراهم ومدنهم بيسر وسهولة.
لقد كررت وكثيرون، عرباً ويمنيين، منذ البداية أن الحرب لن تحقق أهدافها المعلنة بسبب تعقيدات الجغرافيا السياسية والمناطقية، ونشأت كيانات مسلحة جديدة كلها تقول إن لها عدواً واحداً هو الحوثي، على الرغم من أنها تعمل بعيداً من رقابة الحكومة وإدارتها وبتمويل وتسليح غير محلي، واليوم نرى أن “المجلس الانتقالي الجنوبي” فرض نفسه شريكاً من دون إبداء أي تعاون جدي لتسهيل أعمال الحكومة في المناطق التي له تأثير داخلها، سوى بما يخدم مشروعه الانفصالي النقيض الكامل لكل المرجعيات التي تعتاش عليها الشرعية، ومن دون شراكة في المسؤوليات والواجبات بين الحكومة و”الانتقالي” ستبقى هلامية الأوضاع هي السائدة في المناطق الجنوبية، وستفلت الأمور من يد الجميع لمصلحة مشاريع أكثر تفكيكية في الجنوب والوسط وربما الشمال أيضاً، إذا ما خفت قبضة جماعة “أنصارالله” الحوثية على المنطقة التي تقع تحت سيطرتها حالياً.
المؤسف والمحزن أن الناس في كثير من الدول العربية، واليمن واحدة منها، تعيش في انتظار أمل يحمله القادم غودو الذي لا يأتي أبداً، والذي لا يعرفون هويته ولا لماذا سيكون هو المنقذ الذي رسموا تفاصيله في أذهانهم، لكنها الحال البائسة التي جعلت الناس يتمسكون بأي قشة تظهر لهم على السطح، ومع مرور الأيام يزداد إحباطهم ويأسهم.
إن حال التشظي التي يعيشها اليمن وطول زمن الحرب لن تبقى آثارهما محصورة داخل حدوده، وستكون الاضطرابات هي السمة الأبرز، ولكنها ستسبب مزيداً من عدم الاستقرار وستكون عابرة للحدود، وهو أمر طبيعي في بلد يسكنه 30 مليون نسمة تعيش غالبيتهم العظمى تحت أدنى معدلات الفقر، وفيه مجاعة أنهكت كل طبقات المجتمع الوسطى ودفعتها إلى حافة الفقر وطحنت العاجزين فيه.
هكذا، في ظل هذه الحال، سيكون المحظوظ فعلاً من يستطيع الفرار من بلده ليذهب إلى ملجأ آمن يضمن له الكرامة والآدمية، وخيمة تؤويه ويتسول قوت يوم مع أسرته إلى أن تضع الحرب أوزارها، ومن الجائز القول إن الإقليم ما زال يمتلك بعضاً من الأوراق السياسية التي تضعه في موقع بعيد من الاكتفاء في وضعية الاستقطاب، وهذا يحتاج إلى الانفتاح على الجميع من دون استثناء، بخاصة من يعتبرهم خصوماً له، وتعاون هذه الدول في ما بينها ضمن المسار السياسي.
نقلا عن اندبندنت عربية