قبل أشهر قليلة احتفلنا باليوم الوطني الخمسين لدولة الإمارات، واحتفالنا لم يكُن رمزياً بقدر ما كان احتفالاً بإنجازات عظيمة تمكنا من تحقيقها نتيجة كفاح وعزيمة امتدت لخمسة عقود ورؤية قيادة مستنيرة مؤمنة بإمكانيات الإمارات وقدرات شعبها على الولوج إلى آفاق أوسع من النهضة والعلم والمعرفة.
ورغم أن المدة الزمنية المتمثلة بخمسين عاماً تعتبر قصيرة نسبياً في عُمر الدول والشعوب، إلا أن الإمارات أثبتت أن الإطار الزمني ليس عاملاً مهماً لتطور الدول وتنميتها، إذ تمكنا خلال هذه المدة من بناء دولة راسخة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتتمتع بحضور دولي مهم في القضايا الإقليمية والدولية، ولا شك أن نموذجنا التنموي بات يُحتذى به. وسأذكر هنا رقماً واحداً لتبيان قصة النجاح هذه، فالإمارات التي كان حجم اقتصادها عام 1975 نحو 15 مليار دولار وصل اليوم إلى قرابة 430 مليار دولار.
ورغم الإنجازات الكبيرة التي تحققت، لا بُد لنا أن ندرك تماماً أن هناك تحديات عديدة يجب علينا التعامل معها ومواجهتها للحفاظ على هذه الإنجازات، فالمحافظة على المنجز والبناء عليه تتطلب الاستمرار في الجهود وتعزيزها، خاصة وأننا نعيش في عالم متغير وإقليم صعب، ولعل سر نجاح الإمارات يكمن في قدرتها على قراءة التحديات جيداً وتحويلها إلى فرص والتعامل معها بواقعية وعقلانية بعيدة، بعيداً عن الانغلاق والتموضع السلبي.
ومع هذا نواجه في منطقتنا تحديات عديدة، ولعل الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الإمارات في 17 يناير من هذا العام مثال على ذلك، والعبرة أن الوطن يأتي أولاً ومصلحة الإمارات هي فوق أي اعتبار، فالأزمات كما أنها مؤشر على القدرات فهي كذلك مفصلية في قرارنا وتوجهنا، والبوصلة دائماً هي المصلحة الوطنية الصرفة. وكما استطعنا أن نواجه هذه الهجمات الإرهابية بقدارتنا الوطنية، استلزم الأمر مراجعة لطبيعة علاقتنا وتحالفاتنا وتحديد مصداقية هذه الارتباطات في ظل حقائق كنا ندركها، وهي أن المنطقة صعبة وأصبحت أكثر تعقيداً في ظل ظواهر جديدة مثل انتشار المليشيات وتحولات في العتاد العسكري، مع تزايد خطر الصواريخ والمسيرات واستمرار الاحتقان والتصعيد الإقليمي. ومن هنا نعود للثنائية الضرورية للأمن والازدهار نحمي ونبني، وكل ذلك ضمن رؤية لا تتهاون في تقديم المصلحة الوطنية الإماراتية فوق كل اعتبار.
تحديات ومسؤوليات
إن موضوع الأمن والاستقرار في منطقةٍ مثل منطقتنا، بما تحمله من أزمات وصراعات وارتباطات عالمية، يمثل تحدياً رئيسياً يفرض علينا العديد من المسؤوليات تجاه الوطن وضمان مسيرته في هذه الفترة الصعبة، لذلك لا بُد من قراءة التحولات والتغيرات في المشهد العالمي قراءة دقيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن المصلحة الوطنية هي الأولوية الرئيسية بغض النظر عن الظروف والحسابات المختلفة. ومن هذا المنطلق، فإنه لا يخفى عليكم أن سياسة دولة الإمارات للتعامل مع الفرص والتحديات في العقود المقبلة تقوم أساساً على البناء الداخلي وتحصين الوطن من خلال وجود مؤسسة عسكرية كفؤة ومهنية وتتمتع بقدرات احترافية وبناء علاقات وشراكات ذات مصداقية، والتركيز على التنمية الاقتصادية، وبالتالي فإن سياستنا الخارجية ستركز على بناء الجسور وإدارة الخلافات وبناء الشراكات على أساس إمارات مزدهرة في إقليم مستقر.
ولا شك بأن التغيير صفة أساسية في عالمنا، وهذا التغيير من الطبيعي أن يفرض نفسه على الأمن والاستقرار، وهما الركيزة الرئيسية للتنمية، فلا تنمية بلا أمن واستقرار، وبالمحصلة فإن الحديث عن التغيير في العالم يعني بالضرورة الحديث عن النظام الدولي، ومن هذا الواقع لا بُد لنا في دولة الإمارات من رصد حثيث ودقيق للتحولات الأساسية في النظام الدولي وانعكاساته على النظام الإقليمي والذي تمثله الدول الخليجية والعربية، إضافة إلى دول الجوار مثل إيران وتركيا وباكستان والهند. وهنا لا بُد من الإشارة إلى أنه بات من المتعارف عليه أن النظام الدولي هو نظام متعدد القطبية في المرحلة المقبلة، بمعنى أنه نظام لا يتحكم به بلد بعينه، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه مستقبلاً بحسب القراءات العديدة للنظام السياسي العالمي. وعند الحديث عن النظام الدولي والتحولات المرتبطة لا بُد من الإشارة إلى ست ملاحظات رئيسية أثرت وتؤثر في طبيعة وكينونة النظام الدولي.
الملاحظة الأولى:
الأزمة الأوكرانية العميقة والممتدة، والتي تهدد بالتصعيد الأفقي والعمودي، وهي أزمة رئيسية سيكون لها تداعياتها الخطيرة على النظام الدولي وسيكون عالمنا أكثر اضطراباً وأقل استقراراً، ومن المهم أن ندعو جميعاً لوقف إطلاق النار والوصول إلى حل سياسي سريع لتفادي المزيد من التداعيات الجسيمة، وهنا أود أن أضيف أن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة في نظام دولي تعوّد على الأزمات العنيفة وغير العنيفة، فنحن ما زلنا نتعايش مع أزمة الجائحة الصحية، وبالتالي فإن طبيعة النظام الدولي المأزومة مستمرة معنا وتمثل أحد المكونات الأساسية لعالمنا المعاصر، وعليه فإن حسن الإدارة ضروري وتحصين الوطن والمنطقة من الأزمات أو على الأقل تخفيف ومعالجة حدتها جزء رئيسي من المشهد الحالي والمقبل.
الملاحظة الثانية:
وبما أن الأزمات مستمرة فإن التغيير هو القاعدة في النظام الدولي، وقد يكون التغيير بسبب حدث سياسي أو اختراق علمي أو تحول اقتصادي، وهذه التحولات والمتغيرات مترابطة بحيث ينتج عنها تحولات أوسع في طبيعة وكينونة النظام الدولي، وهناك أمثلة عديدة على هذه التحولات التي نشهدها حالياً في مرحلة المخاض العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، بعيداً عن حالة التفرد والزعامة الأحادية لهذا النظام، ومن هذه الأمثلة, أولاً: الهيمنة الأميركية على النظام الدولي ظاهرة تاريخية حديثة نسبياً، وهي اليوم تمر في حالة أشبه ما تكون بالاختبار، في ظل بروز قوة أخرى طامحة لمنافسة الزعامة الأميركية، وهي ليست بالضرورة منافسة سياسية أو عسكرية، بل في شق كبير منها اقتصادية وعلمية، فالواقع السياسي يشير إلى أن العديد من الدول تسعى لتغيير لهذا الواقع. ثانياً: التحولات في الثورة الصناعية، فكما هو معروف فإن الثورة الصناعية الأولى وما تلاها من ثورات غيرت مجرى الحياة، وأثرت بشكل مباشر على البشرية بكافة نواحيها، واليوم نشهد ثورة جديدة وهي الثورة الرقمية المستندة إلى العلوم والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وهذه التحولات الصناعية كافة أثرت وتؤثر على العالم الذي أصبح أكثر ترابطاً بحيث لا يمكن فصل الدول عن بعضها جغرافياً أو ديمغرافياً، وبالتالي من الطبيعي انعكاس ذلك كله على طبيعة النظام الدولي. ثالثاً: الصعود الصيني، إذ تمثل الصين اليوم قوة صاعدة وعملاقاً اقتصادياً من الصعب كبح جماحه، إذ ترى الصين بأنها أصبحت مهيأة ولديها من القدرات والإمكانات ما يؤهلها، لأن تكون قطباً عالمياً ومنافساً لمبدأ الهيمنة الأميركية، وهنا بات من الواضح أن الصين تمكنت من تعزيز نفوذها ومكانتها في العديد من مناطق العالم، خاصة وأنها تمتلك أدوات العصر المتمثلة بقوة الاقتصاد والتفوق التكنولوجي، وبرغم أن التوجه السياسي الصيني في النظام الدولي ليس واضحاً بشكل كامل، إلا أن الثقل الاقتصادي والعلمي يشير إلى الدور الصيني المتنامي في العالم.
الملاحظة الثالثة
عند الحديث عن التحولات في النظام الدولي لا بد من النظر إليها نظرة شمولية غير مرتبطة فقط بالبُعد السياسي، فالنظام الدولي هو مجموعة متوازية ومتشابكة من العلاقات والارتباطات وأبرزها القدرات العسكرية والإمكانيات الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي. ولتدليل على الترابط والنظرة الشمولية للنظام الدولي، نعود إلى الوراء لنرى أن بناء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ارتبط ببناء نظام اقتصادي مالي عُرف باتفاقية بريتون وودز العام 1944، والتي أفرزت في هذا الجانب هيمنة الدولار، كما نرى أن ثورة النفط في منتصف السبعينيات لعبت دوراً في تحول النظام الدولي، ولا شك أن صعود نمور آسيا لعب دوراً محورياً في تغيير التوازن الاقتصادي الدولي بين الشرق والغرب. وفي تقديري فإن الجائحة الصحية الحالية كوفيد- 19 سيكون لها تأثير على التحولات في عالمنا المعاصر، وبالتالي يجب ألا تقتصر الرؤية على البعد السياسي للنظام الدولي والذي ارتبط تقليدياً بالحسابات الجيواستراتيجية والأمنية.
الملاحظة الرابعة:
من الواضح أن النظام الدولي أصبح أقل غربياً مما كان عليه في العقود الماضية، وإذا عدنا إلى الفواصل التاريخية في صياغة النظام الدولي كمؤتمر فيينا 1815 بعد الحروب النابليونية ومعاهدة فرساي 1919 بعد الحرب العالمية الأولى، ومؤتمر يالطا 1944 والذي قسم مناطق النفوذ في الحرب العالمية الثانية، فسنجد أنها جميعاً تعكس خططاً غربية أعادت صياغة النظام الدولي، ولا يخفى عليكم أن النظام الدولي خلال القرنين الماضيين كان نظاماً غربياً صرفاً. أما اليوم، فنرى أن عالمنا أصبح أقل غربياً بفعل العديد من التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية من حركات التحرر الوطني إلى نهضة آسيا الاقتصادية إلى ثورة الطاقة، فنحن نشهد نهضة دول كانت ضعيفة أو مستعمرة مثل الصين والهند والآن أصبحت في صلب النظام الدولي، ولها من الثقل ما يؤهلها للعب دور رئيسي في القضايا والملفات الدولية، وصياغة النظام الدولي الجديد الذي نعيش فتره مخاضه حالياً.
الملاحظة الخامسة:
هناك محاولة من قبل العديد من السياسيين الغربيين لتأطير عالمنا المعاصر أيديولوجياً باعتباره ثنائياً ومنقسماً بين أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، وهذه المقاربة مرفوضة غير مقبولة، وتمثل جزءاً من الدعاية الغربية ومحاولة للتمسك بنظام دولي غربي التوجه، ورافض للحقائق المحيطة، فالتنوع الكبير في عالمنا والتجارب التاريخية المتباينة ترفض هذا المنطق، فما يصلح لدولة ما ليس بالضرورة أن يصلح لدولة أخرى، فلكل دولة أطرها وثقافتها وإمكانياتها وقدراتها بحيث تبني نموذجها بناء على واقعها بعيداً عن الاستنساخ الذي أثبت أن ضرره أكثر بكثير من نفعه. ولا يخفى أن محاولة فرض هذه الرؤية خلال فترة ما عُرف بالربيع العربي كانت كارثية على العرب وأوطانهم وجاءت التجربة ممزقة للدولة الوطنية أو هزيلة لا يعتد بها. وفي هذا التنوع يبرز موضوع الحوكمة، والذي يشمل فاعلية المؤسسات والعدالة والاستقرار ومجموعة من القيم التي تتسق مع تجربة الدول وتساعدها في إدراك طموحها للتنمية والتقدم. وهنا نرى دولة الإمارات وفي إطار تعزيز موقعها الإقليمي والدولي حريصة على الحوكمة، سواء على مستوى تعزيز دولة القانون والشفافية والتصدي للفساد وتبني قيم التسامح وتعزيزها، وما نراه من ثقة الناس في قيادتهم وحكومتهم ما هو إلا انعكاس لذلك.
الملاحظة السادسة:
تقليدياً كانت محاور النظام الدولي سياسية في الغالب واقتصادية إلى حد ما، ولعب القانون الدولي والقوة العسكرية والاعتبارات الجيوسياسية الدور الرئيسي في تحديدها، ولكننا نرى اليوم أن الهموم والتحديات غير السياسية تلعب دوراً رئيسياً في تحديد شكل وتغييرات النظام الدولي، وملف التغيّر المناخي والطاقة المستدامة والصحة العالمية ما هي إلا دليل على ذلك، وهي في تقديري من جهة تكشف الهوة الكبيرة بين الدول النامية والأقل نمواً، ولكنها كذلك تعتبر حافزاً ودعوة للتعاون بسبب الطبيعة العالمية للتحدي، وفي هذا الجانب نرى أداءً إماراتياً جيداً في هذه الملفات واستعداداً مبكراً وريادة إقليمية، وأشير هنا إلى استعدادنا إلى استضافة مؤتمر المناخ الدولي 2023. وهنا لا بد من الإضافة بأن النظام الدولي يشتمل على أنظمة إقليمية تلعب دورها في بلورة وتحولات النظام الدولي، وواقع الإمارات أنها تعمل وتتحرك ضمن دائرة النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وهو من ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية اضطراباً، وجميع المؤشرات تشير إلى أن النظام الشرق أوسطي سيستمر في مثل هذا الاضطراب، وبالتالي فإن إدارة مصالحنا الوطنية تتطلب الحكمة وتغليب الدبلوماسية، كما أنها تتطلب العمل على المشترك لا على حساب جوانب الاختلاف، أي أن ندعو إلى أجندة ازدهار للمنطقة كما ندعو إلى أجندة أمن واستقرار.
هذه الملاحظات الستة التي أجملها في الأزمة الأوكرانية وأن التغيير هو القاعدة في النظام الدولي وشموليته وعدم اقتصاره على البُعد السياسي وأنه أصبح أقل غربياً ومحاولة تأطير العالم بين قسمين ديمقراطي واستبدادي، وبروز ملفات جديدة تلعب دوراً رئيسياً في تحديد شكل هذا النظام، هذه الملاحظات تجعل من الضروري والمهم للإمارات كونها دولة متوسطة الحجم وأحد أكبر اقتصادات الشرق الأوسط أن تتابع هذه التغيرات في النظام الدولي، وأن تُكيف سياستها وتتكيف مع التحولات العالمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التحدي الرئيسي يكمن في التوازن الدقيق بين المحافظة على القيم والثوابت بالتزامن مع الانفتاح على العالم والثورة التكنولوجية، فالإمارات دولة عربية مسلمة ذات تقاليد راسخة ولكنها في ذات الوقت استفادت استفادة كبيرة من التطورات التي تحققت نتيجة عولمة النظام الدولي، وذلك عبر تبنيها لنموذج يمزج بين الثوابت والقيم وبين الانفتاح دون تبني نموذج على حساب آخر، ومن الضروري الاستمرار في هذا الاتجاه الذي حقق نجاحاً لافتاً. ومن المعروف عن الإمارات أنها دولة لا تتباهى بالخط التنموي المتقدم الذي تبنته، ولكنها حقيقة واقعية، فعبر الثلاثين سنة الماضية تمكنت الدولة من إرساء المعايير الاقتصادية والتنموية المتقدمة في المنطقة، وكانت من أوائل الدول النفطية التي بدأت عملية تنويع مصادر الدخل والابتعاد عن نموذج الدولة الريعية، وهي مستمرة في ريادتها وما المشاريع الاستراتيجية النووية والفضائية إلا دليل على ذلك، ومن هذا المنطلق فإن تعزيز ثقلها الاقتصادي في المرحلة المقبلة هو تعزيز لمكانتها وموقعها ودورها.
التحرك الجماعي
وكما تمت الإشارة إليه سابقاً، فإن الأمن والاستقرار مرتبط بشكل وثيق بالتغير الحاصل في العالم، ولضمان قوة تأثيرنا وتعظيم استفادتنا من عملية التغيير والتحولات المرافقة له، لا بُد لنا من إدراك أهمية التكتل والعمل الجماعي والتحرك بشكل جماعي، سواء الكتلة الخليجية أو العربية، فالواقع السياسي الدولي يؤكد أن التحرك الجماعي هو الأقدر على التأثير الإيجابي وتقليل الآثار السلبية، ورغم أن التحرك الجماعي في منطقتنا شابه الكثير من التعثر نتيجة العديد من الأمور، إلا أن هذا التوجه يبقى خياراً ضرورياً ومهماً، ولا يمكن الابتعاد عنه بناء على تجارب سابقة. وفي ظل التطورات الحاصلة في المنطقة لا بُد لنا من إدارة الأمور بحكمة وعقلانية مع الدول التي لديها سياسات ووجهات نظر مختلفة، وذلك عبر البناء على المشتركات وتقويتها، دون التركيز على نقاط الاختلاف باعتبارها حاجزاً يمنع الحوار والتعاون في النقاط المتفق عليها، فنحن نرى إيران جارة لذلك نسعى إلى بناء أفضل العلاقات معها، كما نرى تركيا شريكاً في بحثنا عن الازدهار، ومستمرون في دعم آفاق الاتفاق الإبراهيمي، ولن تكون الإمارات طرفاً أو شريكاً في الإضرار بأي من جيرانها وأخص بالذكر إيران، حيث سنلجأ دائماً إلى الدبلوماسية والحوار والتعاون الاقتصادي.
ولا شك أنه في ظل التغيرات التي تطرأ على النظام الدولي لا بد لنا من ترسيخ مفاهيم تساهم في استقرار النظام الإقليمي، وعلى رأسها احترام سيادة الدول، والرفض المطلق لاستخدام القوة في العلاقات الإقليمية، ورفض دور المليشيات المسلحة خارج إطار الدولة الوطنية، والتعاون الإقليمي لتعزيز الاستقرار والازدهار المشترك، وبناء منصات إقليمية لتعزيز الحوار والتعاون الإقليمي الاقتصادي والاستثماري المتعدد الأطراف. ولهذا فإن خيارنا يجب أن يكون خياراً مفتوحاً وبعيداً عن الانغلاق، بحيث تكون مصلحتنا الوطنية وضمان الأمن والاستقرار في المنطقة هي البوصلة التي تحدد خياراتنا وتوجهاتنا في ظل التحول الكبير في العالم، بحيث نتمكن من الموازنة بين الشرق والغرب والحفاظ على الصداقات القائمة وبناء صداقات وشراكات أخرى بعيداً عن سياسة التموضع والمحاور.
وعلى صعيد البناء الداخلي، فإن الحفاظ على تنافسيتنا الاقتصادية يبقى خياراً رئيسياً، وضامناً مهماً لمواصلة نموذجنا التنموي، إذ تمكنت الإمارات من ترسيخ مكانتها باعتبارها مركزاً متقدماً وبيئة اقتصادية واستثمارية بمعايير عالمية، وفي هذا الجانب فإن سعي الإمارات لرفع تنافسية المنطقة بشكل شمولي هو سعي لتعزيز مكانة وثقل المنطقة في النظام الدولي وتقليل للارتدادات السلبية التي قد تنشأ عن المعطيات الدولية الجارية حالياً. المصلحة الوطنية إن التحولات والتغيرات التي يشهدها العالم هي تغيرات مترابطة ومتداخلة ستفرز آثارها سلباً أو إيجاباً على مختلف دول العالم، وعلى الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي، ومن هذا المنطلق فإن هذه التغيرات بقدر ما تحمله من تحديات تحمل في ذات الوقت فرصاً وآفاقاً أوسع للتطور والتنمية، لذلك فإن المصلحة الوطنية ستبقى هي الموجه الرئيسي لتعاملنا مع هذا المشهد العالمي، بحيث نعزز مكانة الدولة وثقلها السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم، وذلك عبر الانفتاح على التحولات بروح العزيمة والتحدي التي ميزت تجربتنا على مدار العقود الخمسة الماضية، وأن نكون جزءاً من صناعة الحدث والاستعداد لنتائجه لتعظيم استفادتنا وضمان مصالحنا الوطنية.
وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات جوهرية في ميكانيزمات النظام الدولي، فإن منطقتنا كذلك تشهد تغيرات وتطورات مهمة، في مقدمتها السعي نحو تعزيز فرص السلام والاستقرار وخفض التصعيد، والانفتاح بين دول الإقليم بعيداً عن الخلفيات التاريخية التي عززت الصراعات والنزاعات على مدى العقود الماضية، ولعل هذا التوجه يمثل الأداة الأفضل لمواجهة ما يحدث على الصعيد العالمي، وبناء نموذجنا الإقليمي الخاص بنا، والذي يمثل رهاناً مهماً لضمان أمن واستقرار المنطقة وتنميتها وازدهارها. ورغم التطورات التكنولوجية الهائلة والراسخة في القرن 21، إلا أنه وللأسف أن العالم والنظام الدولي الحالي ما زال يدار بعقلية القرن التاسع عشر وأيديولوجياته، وهذا هو ما نراه في العديد من فصول التنافس والصراع.
وبالمحصلة، فإنه في ظل التغيرات الكبيرة على مستوى النظام الدولي والمتغيرات الموازية والمصاحبة في النظام الإقليمي والتي تناولنا بعض جوانبها لا بُد للسياسة الخارجية الإماراتية أن تقرأ هذا المشهد بعمق ومتابعة، فالعالم في العقود المقبلة سيشهد تحولات جذرية سيعبر العديد منها عن حالة أقل توازناً منذ انتهاء القطبية الثنائية في العام 1990. وأما على مستوى النظام الإقليمي، فإن المخرج لحالة التأزم الدائمة التي تشهدها المنطقة هو الحوار والتعاون وإيجاد الحلول المناسبة ضمن هذا الإطار، ودولة الإمارات المقبلة على نهضة جديدة تبني على التراكم التنموي الذي حققته خلال العقود الماضية، لا بُد لها من الاستمرار في هذا النهج لتعزيز ريادتها وموقعها الإقليمي باعتبارها نقطة وصل وتجربة سياسية وتنموية ناجحة.
نقلا عن الاتحاد