يُنسب مفهوم «الأزمات المركبة Polycrises» إلى المؤرخ الأمريكي آدم توز، في مقالته بصحيفة «الفاينانشيال تايمز» المعنونة «مرحباً إلى عالم الأزمات المركبة Welcome to the world of the Polycrises»، في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022؛ للدلالة على نمطٍ جديد من الأزمات والمخاطر الدولية؛ حيث لم تعد تحدث الأزمات فرادى متتابعة، بل أصبحت مترابطة ذات أثر مجمع يزيد على مجموع آثار كل منها منفردة. فالأزمات المتعددة تتفاعل مع بعضها، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تؤثر بشكل متزامن في عدد من المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والصحية العامة والبيئية، و تؤثر أيضاً في المساحات الموجودة بين هذه المجالات. وقد تبنى «تقرير المخاطر العالمية»، الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، مفهوم «الأزمات المركبة»، وطبقه على أزمة الموارد الطبيعية. ولذلك، يتتبع التقرير الأزمات المرتبطة المتوقع لها أن تظهر بالارتباط مع أزمة الموارد، وتوصل إلى أن الأخيرة ستتراكب، في العشر سنوات المقبلة على الأرجح، مع أزمات في مجالات المناخ والبيئة والاقتصاد والصراعات بين الدول وسلاسل التوريد.
والواقع أن الأزمات العربية منذ عام 2011 على الأقل، من الهلال الخصيب إلى اليمن ومن ليبيا إلى السودان، هي أكثر ما ينطبق عليها وصف الأزمات المركبة. فالأزمة السورية بدأت في صورة احتجاجات شعبية في درعا جنوب البلاد، ثم اتسعت لتشمل معظم أنحاء البلاد، وولدت أزمات مركبة يأخذ بعضها بعضاً، وتتضمن أزمة التكامل الإقليمي، والتدخل الخارجي والاحتلال الأجنبي للأراضي السورية، وتنامي النفوذ الإيراني، وتزايد تهديدات الإرهاب المحلي والدولي، وزيادة منسوب الجريمة الدولية (تهريب المخدرات) والتطرف والطائفية، وتنامي مخاطر النزعة العرقية والانفصالية الكردية. دون الحديث عن الأزمة الاقتصادية، والأزمة الإنسانية المتمثلة في ملايين النازحين واللاجئين السوريين في دول الجوار وأطراف الأرض المختلفة.
والأزمة الليبية أكثر تركيباً وتعقيداً. فربما يندر أن يجتمع عدد من الأزمات كما هو الحال في ليبيا. فهناك انقسام سياسي وصل إلى حد الجنون، كما وصفته «الغارديان» البريطانية، وهناك أزمة في التكامل الوطني وأزمة في الأمن الإنساني، وهناك ميليشيات وتنظيمات متطرفة وإرهابية، وهناك قوات أجنبية ومرتزقة.
وينطبق نفس الأمر على اليمن. فالصراع في اليمن مركب، بسبب أطرافه العديدة والمتباينة، ومصالحهم المتعارضة. فهناك تنظيمات سياسية ومسلحة عديدة، تتصارع فيما بينها، وثمة حالة مضطربة من التوازن بين هذه القوى جميعاً، وتتبدل تحالفاتها في الداخل والخارج وفقاً لمصالحها المتعارضة. كما أن التطبيع السياسي بينها صعبٌ للغاية؛ بسبب تنافرها الأيديولوجي والسياسي، وصراعها على الأرض والثروة والقوة. دون الحديث عن التدخلات الخارجية في الشأن اليمني، وأخطرها التدخل الإيراني، وتصاعد المشاعر القومية في الجنوب. ولكن اليمن يواجه احتمالاً خطيراً، ينفرد به عن سائر الأقطار العربية التي تختبر أزمات مركبة، وهو احتمال التقسيم إلى شطرين شمالي وجنوبي، كما كان الحال عليه قبل الوحدة في عام 1990.
وفي السودان الذي مضى أكثر من شهر على أخطر صراعٍ مسلح يشهده في تاريخه الحديث، ذلك الصراع الذي يأخذ شكل «الحرب الأهلية المرقطة»؛ حيث ينتشر أطرافها في أنحاء البلاد، وتتحدد مناطق سيطرتهم في بقع أمنية متناثرة، سوف تسعى إلى التواصل بعضها البعض، في صراع ممتد، ما لم يتم حسمه عسكرياً لأحد الطرفين أو تسويته سياسياً. ويمثل هذا الصراع ذروة أزمة سياسية مركبة، بدأت فصولها منذ الانتفاضة الشعبية والإطاحة بنظام حكم البشير عام 2019، مروراً بحركة الجيش في أكتوبر/تشرين الأول 2021 لإنهاء الشراكة مع المدنيين وإعلان حالة الطوارئ، ثم الاتفاق السياسي وإعادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك للسلطة مؤقتاً في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وانتهاءً بالاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022)، وانكشاف صراع السلطة والنفوذ بين عبدالفتاح البرهان قائد الجيش رئيس مجلس السيادة ومحمد حمدان دقلو «حميدتي» قائد قوات الدعم السريع. ويخشى أن تتكشف أزمة السودان المركبة عن سودان جديد في دارفور أو كردفان، أو حروب أهلية متعددة في أجزاء متفرقة من البلاد.
والخلاصة أن معظم الأزمات العربية، بما فيها الأزمة اللبنانية التي لم يتسع المقام للحديث عنها، هي أزمات مركبة، باتت تتطلب دوراً عربياً فعالاً للتعاطي معها وتسويتها، كما وعدت القمة العربية في جدة في 19 من الشهر الجاري، ولعلها تكون بداية التجديد والتغيير، كما بشّر بيانها الختامي.
نقلا عن الخليج