واجه العالم فيروس «كوفيد – 19» في أواخر عام 2019، وتفشى بسرعة ليطال جميع الدول واقتصاداتها وليلحق ضرراً كبيراً بالقطاع المالي والمصرفي وقطاعات اقتصادية عدة مسبباً دخول الاقتصاد العالمي مرحلة الكساد، وأدت تبعات «كورونا» على المنطقة العربية إلى تهاوي أسعار النفط وانخفاض الطلب العالمي عليه، وانخفاض السياحة الداخلية التي تعتمد عليها بعض الدول، وإلى تباطؤ نمو الاقتصادات العربية، وقد انعكست تداعيات الأزمة في آثار مباشرة على القطاع المالي والمصرفي والناتج المحلي الإجمالي، وآثار غير مباشرة تمثلت بالتباطؤ الاقتصادي في الدول العربية، وتجسدت هذه الأزمة وتبعاتها المباشرة وغير المباشرة والتدابير التي اتخذتها الدول العربية منها -بدورها في نهاية المطاف- في تراجع الأوضاع الاقتصادية العامة في معظم الدول العربية.
شهدت الدول العربية منذ بداية فيروس «كورونا» سلسلة من التبعات المتلاحقة التي استدعت آثارها ذكريات الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي في عام 2008، وظلت تلاحقه لعدة سنوات، لكن مع اختلاف كبير في مسببات الأزمة ومع حالة أعلى من عدم اليقين، فقد تأثر الاقتصاد العالمي عبر قنوات رئيسية عدة، وهي: جانب العرض، وجانب الطلب، والثقة في أسواق المال العالمية وأسواق السلع الأولية وبالتالي الناتج المحلي الإجمالي، وقد شهد الاقتصاد العالمي انكماشاً خلال عام 2020، وهناك تفاؤل حذر حول آفاق نموه المستقبلية مع تخفيف الإجراءات الاحترازية والعودة للأوضاع الطبيعية، وقد تتطور حدة سلبية الآثار الاقتصادية وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي حسب تطورات هذه الأزمة.
لم تكن الدول العربية بمعزل عن آثار الأزمة على جانبي المالية العامة والاقتصاد، فالدول العربية وبحكم علاقاتها الاقتصادية ومكانتها العالمية تؤثر وتتأثر بالأحداث والظروف العالمية، حيث أثر فيروس «كورونا» على نشاط الاقتصاد المحلي بالإضافة إلى الآثار السلبية للركود الاقتصادي العالمي وانخفاض الطلب خصوصاً في أسواق النفط الذي شهد انخفاضات حادة غير مسبوقة في الأسعار، ورغم الأثر السلبي على نمو الاقتصاد غير النفطي وما يصاحبه من تفاقم في عجز الميزانية عن المخطط له مع التزام الدول العربية بمستويات الإنفاق لدعم الاقتصاد المحلي.
تأثر الأداء الاقتصادي للدول العربية في عام 2020 بشكل ملموس بالتداعيات الناتجة عن جائحة «كوفيد – 19»، استناداً إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021، وأثّر هذا الوباء بشكل رئيسي على الأداء الاقتصادي في المنطقة العربية من خلال الانخفاض الحاد في حجم النشاط الاقتصادي بسبب تأثير إجراءات الإغلاق لاحتواء الوباء على عدد من القطاعات مثل السياحة والنقل وتجارة التجزئة وخدمات الضيافة مثل الفنادق والمطاعم والمقاهي. ونتج عن ذلك انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي وتسجيل زيادة كبيرة في عجوزات الموازنات العامة والدين العام، نتيجة التدابير التي اتخذتها الدول للتخفيف من آثار الوباء على الصحة العامة، ودعم الشركات والعمال في القطاع الرسمي، وتقديم الإعانات الفورية للطبقات الفقيرة في شكل تحويلات نقدية وعينية حتى لمن هم خارج شبكات الأمان الاجتماعي، وكذلك المؤسسات والأفراد العاملين في القطاع غير الرسمي.
إضافةً لما سبق، تأثرت الدول المصدرة الرئيسة للنفط أيضاً بصدمة اقتصادية أخرى متمثلة في انخفاض الطلب على النفط وهبوط أسعاره في الأسواق العالمية وانخفاض إنتاجه في إطار اتفاق «أوبك+» ما بين الدول أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول، والدول المصدرة الرئيسية المنتجة للنفط من خارج المنظمة. أما الدول العربية الأخرى، فتأثرت أيضاً بانخفاض عائدات السياحة، وتراجع الطلب الخارجي نتيجة لتباطؤ النمو في اقتصادات أهم الشركاء التجاريين، وتباطؤ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. وبالإضافة إلى الجائحة، واصلت الأوضاع الداخلية تأثيراتها غير المواتية على الأداء الاقتصادي في بعض الدول العربية الأخرى.
بلغ الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في الدول العربية كمجموعة نحو 2432 مليار دولار عام 2020 مسجلاً معدل انكماش قُدِّر بنحو 11.5% بالمقارنة مع عام 2019 كنتيجة لتأثير الأوضاع المذكورة، وهو انكماش لم تعرف الدول العربية مثله حتى في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2009. وتُقدّر الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية في عام 2020 نتيجة للجائحة بنحو 221 مليار دولار بالأسعار الثابتة لعام 2015، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي في كل الدول العربية باستثناء مصر التي كانت الدولة العربية الوحيدة التي حققت نمواً في الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2020، حيث بلغ 3.6%، بينما سجل 3.3% عام 2021 وفقاً لصندوق النقد الدولي.
من ناحية أخرى، واستناداً إلى تقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2021 نما الاقتصاد في المملكة العربية السعودية بمعدل 2.8%، بعد أن انكمش في عام 2020 بمعدل 4.1%، وهو أكبر اقتصاد عربي ومن مجموعة العشرين، ومن الجدير بالإشارة أن جميع الدول العربية الأخرى حققت معدلات نمو إيجابية في عام 2021، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
ومن أجل التصدي للجائحة وسبل التعامل معها والنهوض بالواقع الاقتصادي العربي، لا بد من العمل على استخدام تطبيقات تخطيط الموارد المؤسسية لتشغيل أنظمتها لمعلومات الإدارة المالية، مما يتيح الحصول على المخصصات والنفقات للاستجابة لفيروس «كورونا» والأوبئة الأخرى مستقبلاً، كما ينبغي على صناع السياسات وضع خطط للطوارئ يمكن تعديل حجمها بمرونة للتصدي للمخاطر الصحية والاقتصادية ومخاطر المالية العامة التي تنشأ عن حالات تفشي الأوبئة المتكررة، ويجب على الحكومات تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي، وزيادة الإيرادات غير النفطية، وتوجيه الدعم لمستحقيه، وتطوير آلية إعداد الميزانية العامة للدولة، وتعزيز إدارة الدين العام، والنمو الاقتصادي وتعزيز الاستثمارات الحكومية والقطاع الخاص، وتشجيع ودعم الابتكار والبحث العلمي والرقمنة الاقتصادية إلى جانب قيام البنوك المركزية بدعم الطلب والثقة عن طريق تيسير الأوضاع المالية، وضمان تدفق الائتمان إلى القطاعات السلعية، وتعزيز السيولة في الأسواق المالية المحلية والدولية كما يجب أن تكون خطة الإصلاح محددة زمنياً، وإنشاء شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص وتقديم الدعم والتسهيلات لقطاعات الصناعات الغذائية والدوائية والقطاع الزراعي.
نقلا عن الشرق الأوسط