نرصد مؤشرات تهدئة على معظم محاور الإشتباك فى المنطقة والعالم، الضغوط تخف عن سوريا ولبنان، وربما تصل قريبا إلى عودة دمشق إلى الجامعة العربية، والمباحثات لإيقاف حرب اليمن تزداد كثافة وجدية، ولقاءات شبه معلنة بين إيران والسعودية بوساطة العراق وسلطنة عمان، ودور أكبر للتجمع المصرى الأردنى العراقى فى ترطيب الأجواء، وتخفيف الحصار عن غزة والضفة، وتوصيل الغاز المصرى والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سوريا، وعودة مرتقبة لمفاوضات الاتفاق النووى الإيرانى فى جنيف.
لم يكن اللقاء بين وزير الخارجية سامح شكرى ونظيره السورى فيصل المقداد على هامش اجتماعات الأمم المتحدة صدفة عابرة، بل إشارة لمرحلة جديدة، واكبها لقاءات علنية وأخرى سرية بين وفود عربية وسورية.
ما هى دوافع هذا التوجه الجديد الذى لم تعد الأعين تخطئ علاماته؟ وهل سيكون ترطيب الأجواء مجرد هدنة عابرة أم مرحلة طويلة، وبداية فتح المزيد من ملفات الأزمات المتراكمة، والتى بلغت حدودها القصوى فى السنوات الأخيرة، وبلغت حافة انفجار كبير؟
الأوضاع الدولية والإقليمية مواتية لفترة هدوء وهدنة قد تطول أو تقصر، فالولايات المتحدة غارقة فى أزماتها الداخلية من انقسام وارتفاع قياسى فى حجم الديون بلغ 28 تريليون دولار، وشرخ عميق فى علاقتها مع الإتحاد الأوروبى الذى لا يتحمس لمشاركة واشنطن فى حلف عسكرى ضد الصين، برى أنه لن يجر عليه سوى المزيد من الإنهاك، فاقتصاد أوروبا يعانى أيضا ديونا ثقيلة وتباطؤا فى معدلات النمو، باستثناء ألمانيا، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية تنعش اليمين العنصرى المتطرف فى معظم الدول الأوروبية، واحتمالات تقلبات سياسية واجتماعية خطيرة، ولهذا لا تريد اوروبا السير خلف الولايات المتحدة عدا لندن التى تتعلق بأوهام العصر الذهبى لبريطانيا العظمى، لكنها تواجه أزمات لا تقل خطورة عن باقى أوروبا، وظهرت أزمات نقل الوقود والسلع، والتهديد الأكبر يأتى من تنامى رغبة كل من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية فى الاستقلال، وشبح التشقق والانقسام يهدد حزبى المحافظين والعمال، وذهبت أحلام الخروج من الاتحاد الأوروبى وأوهام انتعاش إقتصادى لا يبدو أنه سيأتى، ولن تجد من الولايات المتحدة المأزومة المدد الكافى لتضميد أزماتها. وكان الخروج الأمريكى من أفغانستان تجسيدا لتلك الأزمة، وشهد الكونجرس جلسات استماع عن سبب الارتباك الأمريكى فى الانسحاب، وكشف عن حجم التخبط وعدم الكفاءة، وما نجم عن الانسحاب المرتبك من تداعيات على صورة الولايات المتحدة والثقة فيها، وامتد تراجع الثقة من شركائها فى حلف الناتو إلى دول الخليج.
على الجانب الآخر لا تريد الصين أى مواجهات عنيفة مع الولايات المتحدة الجريحة، فأى اشتباك عنيف سيؤدى إلى خسائر متبادلة تأمل تجنبها، بينما التنافس الهادئ سيكون فى صالح الصين التى تمضى إلى الأمام بسرعة كبيرة، وما يمكن أن تضمن تحقيقه من تقدم دون صدام وخسائر سيكون أفضل كثيرا، وهذا لا يعنى أنها تتجاهل احتمالات صدام عنيف، وزادت من قدراتها العسكرية بسرعة كبيرة، كسبيل لردع أى تحرك للتحالف الأمريكى الجديد مع بريطانيا وأستراليا. وكذلك تسعى روسيا إلى تعزيز قوة الردع فى شرق أوروبا، إلى جانب تقوية علاقاتها مع كل من الصين وإيران وتركيا لتأمين منطقة القوقاز فى الجنوب، لكنها تأمل فى تحسين اقتصادها وتجنب الحرب الاقتصادية.
أما منطقة الشرق الأوسط والتى دفعت الثمن الأكبر للصراعات الدولية والإقليمية فإنها تواقة لفترة التقاط أنفاس، حتى دول الخليج الغنية التى وجدت أن ثرواتها تتبدد فى معارك لا طائل من ورائها، وأن مؤشرات تراجع النفوذ الأمريكى يدفعها إلى التفكير مليا فى مرحلة ما بعد النفوذ الأمريكى فى المنطقة، ومن هنا جاءت المبادرات من أجل الحوار وتحسين العلاقات أو على الأقل وقف التدهور وتضميد الجراح فى سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا، والتى أدت إلى أزمات سياسية واقتصادية تعانى منها جميع دول المنطقة، لهذا بدأت إطلالة الخريف بأجواء تهدئة تسعى إلى مصالحات تمتد من سوريا وإيران إلى اليمن وليبيا، ورغم أن التوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف ليست هينة، فالتناقضات مازالت متقدة تحت الرماد، إلا أن جميع الأطراف فى حاجة إلى هدنة لالتقاط الأنفاس على الأقل، وربما تفكيك بعض الأزمات المعقدة ولو إلى حين.
نقلا عن الأهرام