تكتسب الانتخابات التركية، التي ستجري جولتها الثانية في 28 مايو الجاري، أهمية خاصة لدى النظام السوري، ليس فقط بسبب اهتمام القوى المتنافسة بمسألة اللاجئين السوريين التي تحوّلت إلى ورقة انتخابية بامتياز، خاصة مع تهديد مرشح المعارضة بطرد اللاجئين السوريين في غضون عامين، وإنما أيضاً لأنها جاءت في توقيت تشهد العلاقات التركية السورية فيه تقارباً لافتاً، بعد قطع شوط معتبر على صعيد حل القضايا الخلافية تمهيداً لتطبيع العلاقات، وهو ما كشف عنه لقاء وزير خارجية سوريا مع نظيره التركي في موسكو في 10 مايو الجاري، بالإضافة إلى التحول الحادث في المقاربة التركية تجاه الأزمة السورية، حيث دعا الرئيس أردوغان إلى أهمية التصالح بين النظام السوري ومعارضيه. وقد أثار هذا الترابط الواضح تساؤلات عديدة حول رؤية دمشق للانتخابات التركية، ورهاناتها غير المعلنة على فوز أردوغان.
تطور لافت
شهدت العلاقات التركية السورية تطوراً لافتاً خلال الشهور التي خلت بعد تجاوب البلدين مع مبادرة روسية في سبتمبر الماضي، لتحسين العلاقات بين أنقرة ودمشق. كما شهدت الفترة الماضية عدة لقاءات أمنية ودبلوماسية، أفضت إلى اجتماع وزراء خارجية البلدين في 10 مايو الجاري في موسكو، وهي المرة الأولى التي يلتقي فيها وزيرا خارجية البلدين منذ العام 2011. وربما يمكن تفسير هذا التغير بالنظر إلى المصالح البراجماتية التي يمكن أن يحققها كل طرف من تقاربه مع الآخر، ففي الوقت الذي يسعى النظام السوري فيه إلى التحايل على التراجع الحادث في مناعته الإقليمية والدولية، تستهدف أنقرة استثمار العلاقة مع دمشق لمحاصرة تحركات قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في مناطق الشمال السوري، وعلى حدود تركيا الجنوبية.
بالتوازي، ساهم الزلزال الذي ضرب مناطق جنوب تركيا وشمال سوريا، في 6 فبراير الماضي، في تحريك المياه الراكدة بين دمشق وأنقرة، وظهر ذلك في موافقة الأخيرة على فتح معبر “باب السلامة” و”الراعي” إلى جانب معبر “باب الهوى”؛ بهدف تيسير دخول المعونات الإغاثية إلى سوريا. كما تعهدت تركيا لأول مرة منذ عام 2012 بفتح مجالها الجوي للطائرات التي تنقل المساعدات الإنسانية إلى سوريا.
في المقابل، تعهّد وزير خارجية تركيا، في 19 مايو الجاري، بدعم بلاده للعملية السياسية في سوريا، والتأكيد على أهمية وحدة الأراضي السورية، وتعزيز جهود الحوار بين النظام وجماعات المعارضة المحلية ذات الطابع السلمي.
دوافع متنوعة
على الرغم من حرص دمشق قبل عدة شهور على توجيه رسائل عديدة مفادها أنها لا تدعم استمرار بقاء أردوغان في السلطة، إلا أنها عادت من وراء ستار لإبداء اهتمام كبير بنتائج جولة الانتخابات الرئاسية الثانية، خاصة أن الرئيس الأسد الذي يسعى إلى التقاط أنفاسه سياسياً بعد عودته للجامعة العربية، وترطيب العلاقات مع أنقرة؛ بات يخشى فوز مرشح الطاولة السداسية بسبب تبنيه خطاباً مناهضاً للاجئين السوريين، ويصر على طردهم، وهو ما قد يمثل ضغطاً على الدولة السورية التي لا تزال تعاني تدهوراً في الاقتصاد. وهنا، يمكن القول إن ثمة العديد من الاعتبارات التي تدفع الأسد نحو تفضيل فوز أردوغان على مرشح المعارضة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- تحييد ورقة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم: لا يمكن فصل التغيير السوري غير المعلن تجاه الرئيس أردوغان عن رغبة بشار الأسد في تعزيز الاستفادة من حالة انفتاح أردوغان على دمشق في التوقيت الحالي. فبينما بات الأسد يخشى من فوز مرشح الطاولة السداسية كمال كليجدار أوغلو الذي تعهّد بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وطردهم دفعة واحدة، وهو ما قد يشكل ضغطاً على النظام السوري واقتصاده المنهار؛ففي المقابل، ثمة قناعة سورية بأنه رغم توتر العلاقة بين أردوغان والأسد، فإن الأخير يجد نفسه أقرب إلى الأول، خاصة أن الرئيس أردوغان لم يُدلِ بتصريحات تحث على طرد السوريين، بل أكد في تصريحات له، في 9 مايو الجاري، بأنه لن يطرد السوريين أبداً.
كما انتقد أردوغان، في 12 مايو الجاري، تصريحات المعارضة بشأن ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم في حال تولت السلطة، حيث قال: “لا أؤيد هذا المفهوم، هذا ظلم.. لا سيما أن العودة الطوعية للسوريين قد بدأت بالفعل ونحن سنقدم الدعم اللازم لهم”.في هذا السياق، فإن دمشق قد تبدو أقرب إلى أردوغان، لا سيما وأن فوز كليجدار أوغلو قد يتسبب في إحداث أزمة حادة للأسد الذي يسعى للاستفادة من الانفتاح العربي على مستوى جلب الاستثمارات وإعادة الإعمار، وتأمين ظروف مقبولة لعودة الملايين من اللاجئين.
2- انعطافة أردوغان تجاه حلفاء دمشق: ترتبط مقاربة دمشق تجاه الانتخابات التركية في جانب منها، بانعطافة الرئيس أردوغان تجاه حلفائها، وبخاصة موسكو ودول الخليج. وهنا، ربما تعتقد دمشق أن بقاء الرئيس أردوغان يمكن أن يلعب دوراً في استمرار توظيف التقارب الاستراتيجي الذي يجمع موسكو ودول الخليج مع أردوغان، للضغط على الأخير بشأن معالجة الملفات الخلافية في العلاقات التركية السورية. كما أن العلاقة التي تجمع بين أردوغان وحلفاء دمشق الخليجيين بجانب موسكو، قد تُسهم في دفع تركيا نحو تبنّي سياسات غير مناهضة لنظام الأسد، خاصة أن بعض الاتجاهات السورية تُشير إلى أن بوتين وقادة الخليج ربما يكون لهم دور أقوى وأكثر تأثيراً على أردوغان بشأن تسريع وتيرة التطبيع التركي-السوري خلال المرحلة المقبلة. ويشار إلى أن الرئيس أردوغان كان قد وعد مؤخراً بإحداث نقلة نوعية في علاقات بلاده المستقبلية مع الخليج وموسكو، وتعزيز التماهي معهم حيال صراعات المنطقة.
3- لجم خصوم الأسد في الداخل التركي: ربما ثمة تفكير لدى نظام الأسد بأن فوز أردوغان الذي يدفع لتطبيع علاقات بلاده مع دمشق، يسمح بنزع ورقة المعارضة السورية في تركيا أو على الأقل تحييدها، وهي الورقة التي سعت أنقرة إلى استغلالها طوال السنوات العشر التي خلت بهدف التأثير على الأسد، وبالتالي توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامها على الساحة السورية، ولا سيما في ظل إصرارها على مواصلة التصعيد في مناطق الشمال السوري ضد قوات “قسد” الكردية.لذلك، فإن فوز أردوغان من وجهة نظر دمشق، لا يعنى فقط استكمال محادثات التطبيع بين البلدين، وإنما تحييد ورقة المعارضة السورية المقيمة في تركيا، خاصة أن أردوغان قد قال في تصريحات له مطلع مايو الجاري: “يتوجب على المعارضة والنظام في سوريا التصالح. ليس هدف تركيا في سوريا هزيمة الأسد، بل إيجاد حل سياسي”. وأضاف: “من الضروري فتح حوار سياسي أو قناة دبلوماسية مع نظام دمشق”.
4- تصاعد القلق من علاقة المعارضة التركية مع القوى الغربية: على الرغم من إعلان مرشح المعارضة التركية أنه سيتجه حال فوزه نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، بالإضافة إلى توقيع بروتوكول معها لضمان سلامة اللاجئين السوريين العائدين، وجعل الشركات التركية تعيد إعمار سوريا بتمويل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ إلا أن ثمة مخاوف لدى الرئيس الأسد من توجهات المعارضة التركية التي أبدت انحيازاً لافتاً بشأن العلاقة مع القوى الغربية، وبخاصة واشنطن التي تصر على مناهضة الأسد، وتدعو لإجراء انتخابات نزيهة في سوريا.
وتجدر الإشارة إلى أن كمال كليجدار أوغلو، يؤكد في خطابه الانتخابي، أنه سيجعل تركيا أقرب إلى أوروبا، وسيعزز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وهو توجه يثير قلق الأسد، خاصة بعد تقديم عدد من نواب الكونجرس الأمريكي، في 9 مايو الجاري، مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع نظام الأسد، ويتضمن المشروع فرض عقوبات على أي حكومة تتعامل مع دمشق أو تعترف بشرعية الأسد. ومع قناعة المعارضة التركية بأهمية إعادة الاعتبار للتحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة، يبقى فوز أردوغان الذي يمثل جناح ممانعة للغرب الخيار الأنسب للرئيس الأسد في هذا التوقيت.
سياقات محفزة
ختاماً، يمكن القول إن نتائج الانتخابات الرئاسية في تركيا قد تلقي بتداعيات كبيرة على مستقبل المشهد السوري، بيد أن هذه التبعات تتوقف على من سيفوز. وإذا كانت ثمة قناعة سورية اليوم بأن سيطرة المعارضة التركية على السلطة، قد تشكل عاملاً ضاغطاً على دمشق، ولا سيما في حالة تنفيذ المعارضة تهديدها بطرد اللاجئين السوريين وترحيلهم دفعة واحدة إلى سوريا، فضلاً عن انحياز المعارضة إلى المقاربة الغربية حيال الوضع السوري؛ لذا فإن السياقات الإقليمية الراهنة، وتطورات الداخل السوري، ربما تدفع الأسد لتفضيل فوز غريمه أردوغان.