تحولت تركيا إلى طرف في الكثير من قضايا وصراعات الإقليم، وبرز هذا الدور بشكل واضح في انخراطها العسكري في كل من سوريا والعراق وليبيا، بالإضافة إلى تحركاتها في شرق المتوسط. ويبدو أن أنقرة سوف تسعى خلال عام 2023 إلى مواصلة توظيف أدواتها العسكرية في الدول التي تشهد صراعات داخلية. وبالتوازي مع ذلك، من المتوقع استمرارها في اتّباع دبلوماسية نشطة تجاه محيطها الإقليمي، بعد أن أدركت أن سياستها إزاء المنطقة كان لها تكلفة باهظة وارتدادات سلبية، خاصة أنها تتجه نحو منح أولوية أكبر للبُعد الاقتصادي في سياستها الخارجية، على أساس فرضية الارتباط الوثيق بين تجاوز أزمتها الاقتصادية، والتهدئة مع بعض القوى الرئيسية في الإقليم.
كما تتمثل أبرز ملامح التحولات الخارجية التي يمكن أن تشهدها السياسة التركية في العام الجديد في استمرار التوتر مع بعض الدول الغربية بسبب المواقف المضادة التي تتبناها الأخيرة إزاء السياسة التركية في المنطقة.
ملامح رئيسية
من المرجّح أن تتحرك تركيا تجاه قضايا وتفاعلات الإقليم خلال عام 2023، في إطار مسارات متنوعة، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- مواصلة توظيف القوة الصلبة: يبدو أن توظيف القوة الصلبة سوف يستمر، في بعض الحالات، من جانب تركيا خلال عام 2023. إذ إن الأخيرة ما زالت حريصة على شن حملة ضد قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال سوريا، في ظل اتهاماتها المتواصلة للطرفين بدعم العمليات الإرهابية التي نفذت على أراضيها، وآخرها تفجيرات شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم السياحية في 13 نوفمبر الفائت، وهو ما دفع تركيا، منذ 20 من الشهر نفسه، إلى شن غارات جوية على مناطق شمالي سوريا والعراق، ووصل الأمر إلى حد تهديد أنقرة بالاجتياح البري للشمال السوري.
وربما تستمر تركيا في تنفيذ عملياتها العسكرية في شمال سوريا، حيث أبدت حرصاً لافتاً على توجيه رسائل بأنها مصممة على تأسيس منطقة عازلة على حدودها مع سوريا، إذ أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 3 ديسمبر الجاري، على أنّ بلاده حتماً ستكمل الشريط الأمني البالغ عمقه 30 كم والذي تقوم بإنشائه على طول الحدود الجنوبية مع سوريا.
2- تعزيز الانخراط في المشهد الليبي: لا يمكن استبعاد أن تتجه تركيا بالفعل خلال عام 2023 إلى محاولة الحفاظ على وجودها السياسي والعسكري في المشهد الليبي، وخاصة بعد توقيع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 25 أكتوبر الماضي، مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، اتفاقيتين عسكريتين تتضمنان رفع قدرات سلاح الجو التابع لغرب ليبيا، وتشملان أيضاً بروتوكولات تنفيذية للاتفاقية الأمنية التي وقعت من جانب المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني السابقة عام 2019.
3- استمرار تحسين العلاقات مع دول المنطقة: يبدو أن تركيا سوف تواصل تحركاتها من أجل تحسين علاقاتها مع العديد من دول المنطقة، على نحو انعكس في التصريحات التي أدلى بها الرئيس أردوغان، في 5 ديسمبر الجاري، وقال فيها أن “تركيا ستزيد من أصدقائها”. وفي الواقع، فإن ذلك لا ينفصل عن التداعيات التي فرضها توتر العلاقات مع العديد من القوى الرئيسية في المنطقة خلال المرحلة الماضية، والتي كانت سبباً رئيسياً في تصاعد حدة الضغوط على الرئيس أردوغان والحكومة من جانب العديد من قوى المعارضة التي اتهمت الطرفين بتبني سياسة أنتجت ارتدادات سلبية على مصالح تركيا في المنطقة، لا سيما بعد أن تراجع الرهان التركي على سقوط النظام السوري في ظل تغير توازنات القوى الرئيسية لصالح الأخير، فضلاً عن تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية التركية. ومن دون شك، فإن اتساع نطاق الخلافات مع العديد من الدول الغربية ساهم بدوره في تراكم الأزمات المختلفة التي تواجهها تركيا، ودفعها إلى إعادة صياغة مواقفها إزاء العديد من الدول، مثل إسرائيل.
4- تصاعد الأزمة مع اليونان: رغم اتجاه أنقرة إلى تحسين علاقاتها مع العديد من القوى الإقليمية في المنطقة، إلا أن ذلك قد لا ينسحب على السياسة التركية إزاء بعض القوى الأخرى، مثل اليونان، خاصة في ظل استمرار التوتر الأمني بين الطرفين في منطقة بحر ايجة وشرق المتوسط خلال المرحلة الحالية، والذي وصل إلى ذروته مع التهديد الذي وجهته أنقرة، في 19 ديسمبر الجاري، بمباشرة إعلان ترسيم حدود منطقتها البحرية الخالصة في بحر ايجة من طرف واحد، في حالة ما إذا لم تنسحب القوات اليونانية من الجزر الواقعة شرق بحر ايجة.
والجدير بالذكر أن هذا التوتر لم يكن الأول من نوعه، ففي 3 سبتمبر الماضي، شكك الرئيس رجب طيب أردوغان في سيادة اليونان على جزر بحر ايجة، واتهمها بـ”احتلال” تلك الجزر، مُهدداً بإمكانية شن عمل عسكري ضد اليونان في أي لحظة، وهو ما يتوقع أن ترد عليه الأخيرة من خلال محاولة تكوين حشد إقليمي ودولي مناوئ للتحركات التركية في تلك المنطقة بالتوازي مع تطوير قدراتها العسكرية بشكل مستمر.
5- تبني سياسة التوجه شرقاً: قد تتجه تركيا خلال العام الجديد إلى مواصلة جهودها لتطوير العلاقات مع روسيا، عبر تنفيذ المشاريع التعاونية التي اتفقت عليها مع الأخيرة في قطاع الطاقة، بعد إعلان الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 13 أكتوبر الماضي، عن إمكانية تحويل تركيا إلى مركز عالمي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. وبالطبع، فإن أنقرة تدعم هذا التوجه، لا سيما أنه سوف يعزز موقعها في المنطقة، خاصة مع تراجع الإمدادات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي، وتعطل خط أنابيب “نورد ستريم”. ويتوازى ذلك مع استمرار جهود أنقرة لمواصلة دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا خلال المرحلة القادمة.
6- عدم استقرار العلاقات مع الدول الغربية: يبدو أن عدم الاستقرار سوف يكون سمة رئيسية للعلاقات بين تركيا والدول الغربية، خاصة المعنية بأزمات منطقة الشرق الأوسط، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، لا سيما في ظل رفض هذه الدول للتهديدات التركية بشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا ضد مليشيا “قسد”، التي تعتبرها تلك الدول حليفاً ساهم في الانتصار على تنظيم “داعش”. كما أن إصرار أنقرة على تطوير علاقاتها مع موسكو لا يتوافق مع مصالح وحسابات تلك الدول التي تسعى إلى إحكام العزلة على الأخيرة بسبب إصرارها على مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا. ويضاف إلى ذلك، اتساع نطاق الخلافات بين تلك الدول وتركيا حول التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط، وتصعيد التوتر مع اليونان.
ومع ذلك، فإن هذا التوتر لا ينفي أن هناك حرصاً من جانب الطرفين على الحفاظ على خيارات متعددة في إدارة تلك الخلافات، على نحو يوحي بأن هناك حدوداً لهذا التوتر سوف يحرص الطرفان على عدم تجاوزها خلال العام الجديد.
استحقاقات استراتيجية
ختاماً، وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن التطورات التي طرأت على صعيد الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب تركيا توحي بأن الأخيرة سوف تواجه استحقاقات استراتيجية عديدة خلال العام الجديد، على نحو ربما يفرض ارتدادات مباشرة على سياستها الخارجية، خاصة أن ذلك كله يتوافق مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية في 18 يونيو القادم، والتي سوف تكون محور متابعة من جانب العديد من القوى المعنية بأزمات المنطقة، نظراً لتأثيرها على اتجاهات السياسة الخارجية التركية.