عقب مرور عدة أشهر على إطلاق الرئيس “عبد المجيد تبون” مبادرته “لم الشمل” في الجزائر باعتباره رئيساً جامعاً للشمل، إلا أنه لم يتم تنفيذها حتى الآن، ورغم حرص الرئيس “تبون” على تفعيل هذه المبادرة فإن الأمر قد اقتصر على عقد لقاءات تشاورية بين الرئيس “تبون” وبعض قادة الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية التي قدمت تصورها بخصوص الوضع العام في البلاد، مع إعلان هذه الأحزاب السياسية الداعمة (أحزاب الموالاة) تأييدها ودعمها لهذه المبادرة باعتبارها خطوة إيجابية من قبل الرئيس “تبون” لتحقيق الاستقرار داخل البلاد.
جبهة متماسكة
طرح الرئيس “عبد المجيد تبون” هذه المبادرة في شهر مايو الماضي قبل شهرين من الاحتفال بمناسبة الذكرى الستين لعيد الاستقلال في 5 يوليو 2022، ودعت الرئاسة الجزائرية الأطراف التي لم تقتنع بالمسار الحالي إلى الحوار وتوحيد الجبهة الداخلية تمهيداً لتغيير حكومي واسع، وفقاً لما أعلنته رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت. وفي هذا الإطار تهدف المبادرة إلى ما يلي:
1- توحيد الصف الداخلي: ترتكز هذه المبادرة بشكل أساسي على تكوين جبهة وطنية داخلية متماسكة لصد المحاولات الخارجية لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني للجزائر، خاصة وأن هذه المبادرة تأتي في إطار تاريخ المبادرات التي شهدها التاريخ الجزائري على غرار “قوانين الرحمة” و”الوئام المدني” و”المصالحة الوطنية”، وصولاً إلى مبادرة “لم الشمل” الحالية التي أعلن عنها الرئيس “تبون” بشكل رسمي خلال لقائه مع الجالية الجزائرية خلال زيارته لتركيا في شهر مايو الماضي، مشيراً وقتها إلى أن الهدف من هذه المبادرة هو تشكيل جبهة داخلية متماسكة. ويعتمد الرئيس “تبون” في ذلك على الدعم الذي يحصل عليه نظامه من المؤسسة العسكرية وبعض الأحزاب السياسية ومنها: (جبهة التحرير الوطني، المستقبل، حزب جيل جديد، حركة البناء الوطني، حركة مجتمع السلم “حمس”…).
2- تحقيق مصالحة وطنية: وذلك عبر إجراء حوار سياسي شامل بين الدولة والأحزاب السياسية والشخصيات المعارضة على وجه التحديد، حيث انتبهت الدولة إلى ازدياد نشاط أحزاب معارضة ما فتئت ترفض سياسات الاحتواء مثل حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” (الآرسيدي)، فضلاً عن وجود خطر محدق يُمكن أن يتسبب به ناشطون سياسيون جزائريون يعيشون في دول أجنبية توفر لهم الحماية لممارسة المعارضة بقوة ومن بعد من خلال منصات وسائط التواصل الاجتماعي التي تساعدهم على تحريك جماعاتهم داخل الجزائر بطرق مختلفة، وفي هذا السياق أعرب الرئيس “تبون” عن استعداده لتحقيق مصالحة وطنية قد تشمل المعارضين في الداخل والخارج، إذا ما أعلنوا قبولهم لهذه المبادرة والدخول في حوار وطني شامل داخل البلاد، الأمر الذي يُساعد الدولة في تجاوز أزمة الثقة القائمة بين النظام والحراك الشعبي ومن ثمّ القضاء على حالة الاحتقان السياسي القائمة في البلاد.
3- مواجهة التحديات الاقتصادية: تهدف المبادرة كذلك إلى محاولة الحصول على دعم حزبي وشعبي يساعده وحكومته على مواجهة المشكلات الاقتصادية المتفاقمة في الداخل خلال السنوات الأخيرة والتي تزايدت حدتها كأحد التداعيات المترتبة على جائحة كورونا، خاصة وأن الاقتصاد الجزائري يعتمد على عوائد المحروقات التي تمثل 90% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ورغم ارتفاع أسعار الغاز الجزائري والنفط بسبب اندلاع الأزمة الأوكرانية؛ فإن القدرات الشرائية للمواطنين لا تزال منخفضة، حيث يبلغ سعر صرف الدولار حوالي 140 ديناراً جزائرياً في شهر نوفمبر الجاري، وبالتالي تهدف المبادرة في أحد جوانبها إلى تمكين الدولة من مواجهة تداعيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة.
4- إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية: يهدف الرئيس “تبون” من خلال مبادرة لم الشمل لإشراك الأحزاب والقوى السياسية في عملية الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تنوي الدولة القيام بها، وخاصة فيما يتعلق بسياسات مراجعة الدعم الحكومي وما تحمله من انعكاسات على أفراد المجتمع، وتحديداً الطبقات الفقيرة والأقل فقراً، وبالتالي تهدف هذه المبادرة إلى إشراك الشعب في عمليات الإصلاح الاقتصادي، وإذا تحقق ذلك فسوف يُسهم في تحسين الصورة الجزائرية أمام المجتمع الدولي وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو الاقتصاد الجزائري، إلا أن ذلك لن يتحقق إلا في إطار مناخ سياسي واجتماعي مستقر.
5- مواجهة الضغوط الدولية: تهدف المبادرة أيضاً إلى تشكيل جبهة داخلية تتسم بالتماسك لدعم الدولة الجزائرية في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة على الجزائر بسبب رغبة الدول الغربية في ضمان الحصول على إمدادات الغاز الطبيعي الجزائري على خلفية تداعيات الحرب الأوكرانية من جهة، والضغط عليها من جهة أخرى في محاولة للحد من التقارب الجزائري الروسي المتمثل في صفقات السلاح التي تحصل عليها من روسيا، وبالتالي فقد دفعت هذه الضغوط القيادة السياسية الجزائرية للتفكير في تعزيز الجبهة الداخلية لمواجهة كافة هذه الضغوط.
عقبات قائمة
رغم تجديد الرئيس “تبون” دعوته في شهر أغسطس الماضي لحكومته ولقادة الأحزاب السياسية الموالية له، بإعادة النظر في مبادرة لم الشمل؛ إلا أن هناك بعض العوامل التي تُمثل عائقاً أمام تنفيذ هذه المبادرة، ومن أهمها ما يلي:
1- غياب الرؤية والأهداف من طرح المبادرة: يرى المعارضون أن مبادرة لم الشمل لم يتم الإفصاح عن مضمونها بشكل واضح، وبالتالي عدم تحديد أهدافها وكيفية تحقيقها، والدليل على ذلك أن معظم اللقاءات والمشاورات التي أجراها الرئيس “تبون” خلال الأشهر القليلة الماضية مع بعض الأحزاب السياسية لم يصدر عنها أية توصيات أو قرارات، حتى إنه لم يتضح الهدف منها، واكتفى رؤساء الأحزاب الذين اجتمعوا مع الرئيس “تبون” بإطلاق تصريحات مؤيدة للمبادرة، دون الإفصاح عن بنود المبادرة بشكل واضح أو آليات تنفيذها.
2- موقف الحراك الشعبي المناهض للمبادرة: لا تزال العلاقة بين النظام السياسي القائم في الجزائر وقوى الحراك الشعبي محل جدال، خاصة وأن قوى الحراك الشعبي تفتقر إلى الثقة في التعامل مع النظام السياسي الحالي برئاسة “تبون”، ويرجع ذلك إلى الإجراءات التي فرضها خلال العامين الماضيين، مستغلاً جائحة كورونا لتحجيم أنشطة الحراك، وشمل ذلك التوسع في عمليات اعتقال الناشطين وأفراد الحراك الشعبي، وما ترتب على ذلك من جمود سياسي واضح، واتهام الحراك الشعبي للرئيس “تبون” بتبني سياسات وإجراءات تعسفية ضد الناشطين ورموز الحراك، وعدم استجابته لمطالبهم بالإفراج عن المعتقلين منهم، كما أنه لا يعتبرهم سجناء رأي، وهو ما يُشعرهم بخيبة أمل. وفي هذا السياق، صرح “كريم طابو” أحد أبرز وجوه الحراك الشعبي بأن الرئيس “تبون” يستطيع اتخاذ إجراءات الإفراج عن المعتقلين، في 28 مايو الماضي، إلا أنه لا يرغب في ذلك، لأن الحراك يمثل مشكلة رئيسية له ولنظامه، وهو ما يفسر وضع السلطات للعقبات لمنع عودة الحراك مرة أخرى.
3- تشكيك أحزاب المعارضة في جدية المبادرة: ترى بعض الأحزاب السياسية المعارضة أن مبادرة لمّ الشمل غير مجدية في تحقيق أهدافها، ويرون أنه لإجراء حوار وطني يتسم بالنزاهة والجدية والمصداقية، فلا بد من تشكيل هيئة وطنية مستقلة تُشرف عليه بعد أن يتم دعوة كافة الأحزاب والقوى السياسية بما فيها المعارضة، وهو ما يضمن إجراء حوار وطني حقيقي، على أن يسفر عن توصيات أو مخرجات ملزمة لكافة الأطراف التي شاركت فيه بمن فيهم النظام السياسي القائم.
4- غياب إجراءات بناء الثقة بين النظام وقوى المعارضة: فرغم الإجراءات التي اتخذتها الدولة خلال الفترة الأخيرة في محاولة منها لتخفيف حدة الاحتقان السياسي الحالية داخل المجتمع، والتي شملت تخفيف الأحكام القضائية ضد بعض المعتقلين من النشطاء ومعتقلي الرأي والتعبير، وإطلاق سراح البعض منهم؛ إلا أنه لا يزال هناك 260 معتقلاً -وفقاً لأحد التقديرات- بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات الشعبية أو بعض القضايا المتعلقة بالحقوق والحريات، ورأى حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” (علماني معارض) أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات غير كافية للتعبير عن مصداقية المبادرة، ولا تعبر عن توافر إرادة حقيقية لإطلاق سراح كافة معتقلي الحراك، بل لا تزال الدولة تواصل اعتقال الناشطين، وتستمر في التضييق على وسائل الإعلام والنشطاء السياسيين.
5- غموض موقف المستفيدين من المبادرة: يقف أمام نجاح مبادرة لم الشمل في تحقيق أهدافها عقبة رئيسية متمثلة في الغموض القائم بشأن الفئات المعنية بتدابير القانون الخاص بالمبادرة، وخاصة فيما يتعلق بمصير 289 من سجناء التسعينيات، وتحديداً الإسلاميين الذين تورطوا في أحداث العشرية السوداء. ورغم دعوة الرئيس “تبون” حكومته بحصر المستفيدين من المبادرة وخاصة بالنسبة للذين قاموا بتسليم أنفسهم عقب انقضاء المدة الزمنية المحددة للاستفادة من قانون الوئام المدني الصادر في عام 1999، ومن بعده قانون المصالحة الوطنية في عام 2005، ورغم طرح المبادرة الحالية للم الشمل وتأكيد الرئيس “تبون” أن لم الشمل سيشمل الذين قاموا بتسليم أنفسهم بعد انقضاء الآجال الزمنية لقانوني الوئام المدني؛ فإن الغموض لا يزال يكتنف ملفّ هؤلاء السجناء، وخاصة في ظل الحديث عن انتظار إصدار عفو رئاسي عنهم.
6- غياب دور المثقفين في إنجاح المبادرة: يرى المراقبون أن هناك عقبة أخرى تقف أمام نجاح مبادرة لم الشمل في تحقيق أهدافها، وتتمثل في تكريس الدولة لأحزاب الموالاة وتحجيم أدوار أحزاب المعارضة، وفي الوقت نفسه عدم الاستعانة ببعض المثقفين الذين يتمتعون بمصداقية في أوساط المجتمع الجزائري في المجالات الثقافية والفكرية والفنية والأكاديمية لمشاركة النظام القائم في الترويج لمبادرة لم الشمل ومن ثم تنفيذها على أرض الواقع، ويرجع ذلك إلى أن النظام السياسي الحالي لا يقيم وزناً لجزء كبير من شريحة المثقفين، كما أن البعض منهم اختار الانضمام للأحزاب والمنظمات المدنية الموالية للدولة، وهو ما أدى إلى غياب دور فاعل وحقيقي لهؤلاء في الحياة السياسية بصفة عامة.
معضلة الاختزال
خلاصة القول، تشير مبادرة لم الشمل إلى رغبة النظام السياسي القائم في تشكيل جبهة داخلية تدعم النظام وتثبت أركانه في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن عدم الكشف عن مضمون المبادرة وآليات محددة لتنفيذها، يمثل عقبة أمام تحقيق ذلك، وهو ما يحد من فرص تنفيذها. وفي هذا الإطار، تُرجّح المعطيات الراهنة أن تنحصر مبادرة لم الشمل أو اختزالها فقط، في إشكالية أوضاع سجناء التسعينيات، كما ستظل إشكالية التعامل مع قوى الحراك الشعبي هي العقبة الرئيسية أمام نجاح هذه المبادرة.