ما بين العوامل الدافعة إلى النجاح في عملية نزع السلاح وتفكيك المليشيات في ليبيا، وبين بعض الصعوبات التي يمكن أن تحد من ذلك النجاح؛ تراوح الأزمة الليبية مكانها. ورغم محاولات المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي التعهد ضمنياً بنزع سلاح المليشيات، وإعادة دمج مقاتليها في المؤسسات الليبية؛ إلا أن هذه المليشيات ستظل العقبة الكؤود أمام أية محاولة لإرساء الاستقرار والانتقال نحو الخروج الآمن من الأزمة ما لم يحدث توافق دولي وإقليمي وداخلي على تفكيكها.
أعلن المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي، في 27 أكتوبر الجاري، الاتفاق على تشكيل لجنة فرعية للجنة العسكرية المشتركة، التي تضم طرفي النزاع العسكري في البلاد. وأكد باتيلي أن إنشاء هذه اللجنة “يأتي وفقاً للبند الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار، المُبرم في جنيف برعاية أممية، في أكتوبر 2020”.
واللافت أن باتيلي قد استغل مناسبة “أسبوع نزع السلاح”، للتعهد ضمنياً بنزع سلاح المليشيات، بل وكرر التزام الأمم المتحدة بتقديم الدعم الفني للجنة العسكرية المشتركة “5+5” في ليبيا من أجل تسريع تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك وضع تنظيم حيازة السلاح تحت السيطرة الحصرية للدولة.
إلا أن المشكلة الأساسية التي تواجه باتيلي، فيما تعهد به من نزع سلاح المليشيات، هي التناقض بين العوامل الدافعة إلى النجاح، وبين بعض الصعوبات التي يمكن أن تحد من ذلك النجاح.
عوامل دافعة
في ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تعد قضية المليشيات المسلحة وفوضى السلاح في عموم ليبيا من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. فانتشار السلاح بيد تشكيلات غير تابعة للمؤسسة العسكرية بشقيها الشرقي والغربي، يأتي في مقدمة العراقيل التي فاقمت من حدة الأزمة في ليبيا.
ورغم أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن حجم انتشار السلاح في هذا البلد، إلا أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى وجود ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح. وبالتالي، يبدو أن ثمة عوامل متعددة يمكن أن تُساهم في نجاح عملية نزع سلاح المليشيات، لعل أهمها ما يلي:
1- حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية: يكتسبمثل هذا “الحل” أهمية بملاحظة أن عدد المليشيات “المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون” في المنطقة الغربية، وتحديداً في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 مليشيا. وهنا، تكفي الإشارة إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر في مارس 2021، والذي أكد على أن المليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة. ولعل التركيز على المنطقة الغربية يعود إلى أن الوحدات العسكرية الموجودة في شرق ليبيا وجنوبها، مهيأة كلياً لعملية التوحيد، كونها وحدات منظمة وتتبع إدارة واحدة.
2- إعادة دمج المقاتلين في المؤسسات وسوق العمل: في الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية الليبية، من حيث أنها تعرقل عمل الحكومات، بما يمنع الاستقرار وأداء المؤسسات لمهامها؛ فإن هذه المشاورات، في الوقت نفسه، جاءت لتحمل كيفية تنفيذ الخطة الدولية في هذا الشأن عبر تقسيم المنخرطين في المليشيات المسلحة إلى ثلاثة أقسام: الأول، يشمل المجموعات المنظمة والمنضبطة، وسيجري دمج عناصرها مباشرة بالقوات الأمنية الرسمية. فيما سيكون هناك قسمٌ ثانٍ للمجموعات التي لا تحمل أفكاراً متطرفة، والتي سيخضع أفرادها لدورات تأهيلية قبل أن يتم دمجهم إلى جانب مجموعات القسم الأول، سواء في مؤسسات الدولة أو في سوق العمل. أما القسم الثالث، فيشمل المجموعات التي مارست نشاطات إرهابية أو إجرامية، وسوف يصنف أفرادها كمجموعات خارجة عن القانون، ويتم ملاحقتهم وفقاً لذلك.
3- ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا: سيكون إخراج المقاتلين الأجانب (المرتزقة) ضمن أصعب المهمات لإنجاح عملية نزع سلاح المليشيات، ووضعه تحت السيطرة الحصرية للدولة، على طريق التوصل إلى صفقة سياسية تُنهي حرباً بالوكالة على الأرض الليبية. إذ لا تريد تركيا أو روسيا، المتهمتان بتوظيف مرتزقة، رؤية نفوذهما يتضاءل مستقبلاً. ومن هنا، يبرز التساؤل حول مصير آلاف المرتزقة المنتشرين بمحيطي سرت والجفرة والغرب الليبي عموماً، خصوصاً أن الإيعاز “الخارجي” الأمريكي، من أجل تنفيذ حل “نزع السلاح”، ظاهره إنهاء الأزمة وفتح باب المفاوضات، بعدما أدركت الولايات المتحدة أن التقسيم الفعلي لليبيا أصبح احتمالاً واقعياً، وهو سيناريو من شأنه أن يخلق حاضنة مثالية للجماعات الإرهابية، أما باطنه فهو التدخل لمجابهة الوجود الروسي.
صعوبات متعددة
تُمثل عملية نزع السلاح وتفكيك المليشيات “قضية جوهرية” من أجل إعادة سيادة الدولة، وقد أغفلها البعض على حساب ملفات أخرى، رغم أن الدولة لن تصل إلى الاستقرار إلا باحتكارها القوة.
والملاحظ أن ثمة ارتباطاً للمليشيات بثلاثة تهديدات كبرى، تساعد على إبقاء الحالة الليبية في وضعية “تأزم” مزمن ومستمر؛ الأول سياسي يتمثل في فرض المليشيات لمعايير وحقوق المواطنة التي تلائمها، على حرية تقلد الليبيين للمناصب وشغل مراكز الإدارة العامة. والثاني عسكري، من خلال احتكارها للسلاح والعنف. والثالث اقتصادي، عبر سيطرتها على النقد الأجنبي وتجارة العملة، وفرضها “الإفلاس الفني” على البنوك، وتدميرها لشبكة الأسواق الوطنية.
ومن ثم تتبدى صعوبات عملية نزع السلاح وتفكيك المليشيات فيما يلي:
1- تنامي ظاهرة المليشيات وتزايد أعداد مقاتليها: على الوجه الخاص بالمليشيات، تكفي ملاحظة أنها قد تغولت، وتزايدت أعدادها من حوالي عشرين ألفاً، إلى ما يقارب المائتي ألف مقاتل. بل إن الوضع الذي تبدو عليه المليشيات المسلحة إنما يتشابه كثيراً مع نظام الكتائب العسكرية الذي اعتمده القذافي، خلال العقدين الأخيرين من حكمه. وإذا كان البعض يرى أن القذافي قد ارتكب خطأً فادحاً بتهميش الجيش لصالح الكتائب المسلحة، فإن الخطأ الذي لا بد من الاعتراف به هو عدم قدرة الحكام الجدد، منذ عام 2011، على إصلاح ما أفسده “العقيد” ونظامه، حيث تُركت المليشيات المسلحة، التي هزمت نظام القذافي، لتنمو وتتضخم على حساب جيش وطني موحد.
2- تراجع إمكانية التدخل الخارجي لتفكيك المليشيات: إذ إن نزع السلاح وتفكيك المليشيات يحتاجان إلى قرار من مجلس الأمن الدولي، واضح ومباشر في هذا الشأن، وإقرار مباشر بتشكيل بعثة دولية أمنية تتولى تنفيذ هذا الأمر. إن الأمم المتحدة هي وحدها من يمتلك إدارة حفظ السلام، وهي الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك التوصيف الوظيفي والمسئولية القانونية والخبرات والإمكانيات البشرية والمادية لتنفيذ عملية نزع سلاح المليشيات، وتفكيكها وتسريح أفرادها. ولكن لأن الأزمة الليبية قد دخلت فعلياً على خطوط التماس مع استراتيجيات الدول الكبرى الخاصة بهذه المنطقة من العالم، لذا تبدو إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن في هذا الشأن شديدة الصعوبة.
3- الاختلاف الروسي-الأمريكي حول نزع سلاح المليشيات: يبدو الاختلاف الروسي-الأمريكي بوضوح عبر ملاحظة ما يُثيره الوجود الروسي، من خلال “فاغنر” والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الصاروخية في القواعد الاستراتيجية بالقرب من الهلال النفطي في شرق ليبيا، من جدل كبير في الولايات المتحدة وبين القوى الأوروبية الكبرى، باعتباره تهديداً وشيكاً لحلف الناتو والأمن في البحر الأبيض المتوسط. وفي المقابل، تنظر موسكو إلى عملية نزع سلاح المليشيات، المدعومة أمريكياً، على أنها “خدعة غربية” لإحباط نفوذ روسي، عسكري واقتصادي وسياسي، دائم في الجارة الجنوبية لأوروبا، لأن نزع السلاح يعني سحب القوات الروسية المتمركزة في ليبيا في المقام الأول قبل كل شيء.
4- عدم اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل عملية التفكيك: لم تقم الحكومة المنتهية الولاية بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها، ولكن على العكس فشلت في أهم الملفات التي كانت ملقاة على عاتقها، وهو ملف تفكيك المليشيات المسلحة وإعادة دمجها في المؤسسات الرسمية للدولة. ورغم المحاولة من جانبها في الإعلان عن “المبادرة الوطنية” لتفكيك المليشيات وتسريح أفرادها، ودمجهم في مؤسسات الدولة، وفي سوق العمل؛ إلا أن نسبة نجاح هذه المبادرة ضئيلة للغاية، بل تكاد تكون معدومة.
فشل مؤسسي
يمكن القول إن النقطة المركزية في الأزمة الليبية عموماً، وفي تعثر عملية حلحلة هذه الأزمة، هي المليشيات المسلحة. إذ من بين الدول العربية التي شهدت ثورات على أنظمة الحكم فيها، وإسقاط رؤوسها، انفردت ليبيا بظاهرة المليشيات المسلحة، وهي الظاهرة التي ساهمت في ذلك التدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي طوال السنوات اللاحقة على سقوط القذافي ونظام حكمه.