أعلنت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، مطلع نوفمبر 2022، عزمها إعادة إدراج قانون التجنيد الإلزامي على جدول أعمال جلسات البرلمان قريباً بهدف إقراره. وبعدها بيومين خرج رئيس البرلمان العراقي “محمد الحلبوسي” في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، في 3 نوفمبر 2022، ليؤكد على ضرورة عودة البلاد مجدداً إلى تطبيق القانون المعروف باسم “قانون العلم” بعد 19 عاماً من إلغائه والذي سبق وأقرته الحكومة العراقية السابقة برئاسة “مصطفى الكاظمي” في أواخر أغسطس 2021، إلا أنه بعد إحالته إلى البرلمان لتشريعه وقتها لم ينظر فيه بسبب حالة الجمود السياسي التي أعقبت الانتخابات البرلمانية العراقية. وقال “الحلبوسي”: “إن المضيّ بتشريع قانون (خدمة العلم) يضمن إعداد جيلٍ من الشباب أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة، مُلِمٍ بالحقوق والواجبات، ومتحفز لحفظ الدولة وسيادتها، ويسهم في تعزيز منظومة القيم والأخلاق والانضباط والالتزام بالهُوية الوطنية”.
وينص هذا القانون الذي أقره العراق في عام 1935 والمقرر مناقشته تمهيداً للتداول بشأنه خلال انعقاد جلسة البرلمان الأسبوع المقبل، على تجنيد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً لفترات خدمة تتراوح من عام إلى عامين بناء على درجة تعليمهم. وسيعيد مشروع القانون إنشاء خدمة الاحتياط العسكرية لمن هم دون سن الخمسين، وسيحصل المكلف بتنفيذ القانون على مرتب يتراوح بما بين 600 و700 ألف دينار عراقي (نحو 500 دولار)، كما يمكن للمكلف بتنفيذها بعد انتهاء مدة خدمته العسكرية الاستمرار فيها ولكن كمتطوع، وسيتم إعفاء من يعانون من صعوبات صحية أو معيل لأسرهم من الخدمة، ومن يرفض تلبية نداء الخدمة العسكرية الإلزامية سيتم منعه من العمل أو السفر إلى الخارج، فضلاً عن فرض غرامات وأحكام بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات، فضلاً عن تنفيذ القانون بعد عامين من الموافقة عليه من قبل البرلمان العراقي.
دلالات التوقيت
ثمة دوافع وراء إعلان مجلس النواب العراقي في الوقت الراهن ضرورة إقرار قانون التجنيد الإلزامي في البلاد، على النحو التالي:
1- رغبة الحكومة العراقية الجديدة في مواجهة أزمات البلاد: يأتي الإعلان عن هذا القانون بعد أقل من أسبوع على إعلان رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” الذي حصل مؤخراً على ثقة البرلمان عن حكومته الجديدة المكونة من 23 وزيراً في 28 أكتوبر الماضي. ووفقاً لبرنامج الحكومة الذي سبق وأعلن عنه “السوداني” فإن معالجة ظاهرة البطالة، وخلق فرص عمل للشباب، وإصلاح جميع قطاعات الدولة الاقتصادية والصناعية والزراعية وغيرها، تأتي على رأس الأولويات. وعليه فإن الإعلان عن هذا القانون قد يكون محاولة من قبل رئيس الوزارء العراقي إيصال رسالة مفادها أنه يعمل على إرضاء الشعب العراقي الرافض للأوضاع السيئة التي تشهدها بلاده، وهذا بتوفير احتياجاته الرئيسية، والنهوض بأوضاعه الاقتصادية والمعيشية، والقضاء على الفساد المستشري داخل أجهزة الدولة.
2- تمدد نشاط التنظيمات الإرهابية في المنطقة: لدى الحكومة الجديدة رؤية بأن هناك حاجة مضاعفة في الوقت الراهن لتقوية جيشها من أجل مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمن واستقرار ليس فقط العراق فحسب بل المنطقة بأكملها. فمنذ عام 2003، شهد العراق تمرداً وصراعاً طائفياً بلغ ذروته في عام 2014، عندما استولى داعش على أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية، ولكن في أواخر عام 2017 تمكنت القوات العراقية المدعومة من التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة من هزيمة تنظيم داعش، ورغم ذلك لا يزال التنظيم يحتفظ بخلايا في مناطق نائية، ويشنون من وقت لآخر هجمات إرهابية متقطعة ضد الجيش وقوات الحشد الشعبي شبه العسكرية المدمجة الآن في الأجهزة الأمنية الرسمية، وعليه فإن الدول تعتقد أن “التجنيد الإلزامي” قد يقطع الطريق على الجماعات الإرهابية لوقف استقطابها للشباب.
3- تنامي دور وكلاء إيران في بؤر الأزمات العربية: قد يكون الهدف من اتجاه الحكومة العراقية الجديدة لإعادة تطبيق قانون التجنيد الإلزامي في البلاد هو قطع الطريق على الميليشيا الشيعية الموالية لإيران المعروفة باسم “قوات الحشد الشعبي” وإبعادها عن المشهد السياسي وتحجيم دورها خاصة في ظل قيامها باستمرار بتجنيد الشباب في سن الخدمة الإلزامية تحت شعارات طائفية زائفة، الهدف منها تنفيذ مخطط نظام ولاية الفقيه الذي لطالما استغل الضعف الأمني الذي تعاني منهز بلدان المنطقة للتمدد والانتشار من خلال الدفع بوكلائه المنتشرين داخل هذه البلدان لتنفيذ أجندة توسعية بها، وإنشاء كيانات “موازية” للدولة بحيث تصبح هناك دولة داخل دولة، وجيش موازٍ لجيش الدولة الوطني. وهذا ما تحقق في العراق خاصة بعد 2014، وأصبحت لديها أجهزة أمنية موازية لسلطة الدولة كالحشد الشعبي والأمن الوطني، وهو ما نجم عنه سيطرة طهران على القرارات الأمنية والعسكرية في بلاد الرافدين، ولذلك فإن الحديث عن ضرورة عودة “قانون خدمة العلم” جاء بالتزامن مع تأكيد وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين” على رفض حكومة “السوداني” لجميع التدخلات الإيرانية والتركية في بلاده، وهذا ما أكده “السوداني” في أول تصريح له عقب ترأسه للحكومة، مشيراً إلى أن حكومته ستتصدى بقوة لبعض الجهات التي كانت تسعى لنشر الفوضى المسلحة في العراق، وأنه سيتخذ خطوات إضافية لحماية جميع مؤسسات الدولة.
4- تعزيز قوة المؤسسة العسكرية العراقية: يعتقد العراق أن “قانون التجنيد الإلزامي” يعد في الوقت الراهن ضرورة ملحة لتعزيز قوة الدولة وتقوية وإعادة تنظيم مؤسساتها العسكرية، والقضاء على الفساد المستشري بداخلها، والانتماءات الطائفية والقومية وتعزيز الروح الوطنية لدى أبنائها حتى تتمكن في نهاية الأمر من بناء مؤسسة عسكرية تحمل قيماً وطنية وقادرة على حماية العراق، وما يؤكد ذلك أن وزارة الدفاع العراقية كشفت في وقت سابق عقب الإعلان عن التوجه لإعادة تطبيق هذا القانون أنها تقوم بتأهيل وتحديث معسكرات جديدة تابعة للجيش، وتوسع ترسانته العسكرية بحيث يستوعب الجيل الجديد من العسكريين الشباب المنضمين للخدمة العسكرية الإلزامية، يأتي هذا في الوقت الذي يمتلك فيه العراق أكثر من مليون جندي وضابط شرطة وأفراد من قوات الحشد الشعبي يخدمون أو يتلقون رواتب تقاعد، وأيضاً في الوقت الذي تعمل فيه بلدان العالم على تطوير جيوشها بشكل نوعي وليس كمياً، فالعبرة ليست في عدد الجيش ولكن في مدى فاعلية وتكنولوجية الأسلحة المتطورة التي يمتلكها.
انعكاسات متعددة
وتجدر الإشارة إلى أن إعادة الحديث عن قانون التجنيد الإلزامي أثار جدلاً وتبايناً كبيراً داخل الأوساط العراقية ما بين مؤيد ورافض بشدة لتنفيذه في البلد الذي عانى ولا يزال من الحرب والإرهاب والفساد، وبناء عليه فإن هناك جملة من الانعكاسات يمكن أن تنجم عن هذا القانون في حال تم إقراره، على النحو التالي:
1- تدهور العلاقة بين الدولة والشعب العراقي: اتجاه النظام العراقي في الوقت الحالي الذي يعاني فيه من أزمات جمة على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد الخروج من حالة “الجمود السياسي” التي شهدها على مدار عام، إلى إقرار قانون للخدمة العسكرية الإلزامية يهدف إلى زيادة عدد أفراد القوات المسلحة إلى 10 ملايين، سيؤدي من ناحية إلى حصول رئيس الحكومة العراقية على صلاحيات واسعة تمكنه في أي وقت من اضطهاد الشعب من خلال الاعتماد على الجيش كأداة لقمع الاحتجاجات الشعبية الرافضة والمعارضة لسياسته، وخاصة ضد الرافضين للامتثال لقانون التجنيد الإلزامي، ومن ناحية أخرى فإن هذا القانون في حال استجاب له البعض قد يؤدي على الأرجح إلى تحويل ولاء الشباب للمؤسسات العسكرية على عكس النظام الديمقراطي، مما يزيد من مخاطر الانقلابات العسكرية، خاصة إذا كان هناك أفراد انضموا إلى هذه الخدمة دون إرادتهم.
2- صراع الفصائل الشيعية مع أجهزة الدولة: عملت “قوات الحشد الشعبي” الشيعية على مدار السنوات الماضية على تمدد نفوذها داخل الأراضي العراقية حتى باتت تمثل كياناً عسكرياً موازياً للقوات النظامية للدولة، ولذا فإن استشعارها وجود محاولة من قبل السلطة الحاكمة لضم شباب إلى الجيش العراقي في محاولة لإضعافها أو إبعادها عن البلاد قد يجعلها تدخل في صراع مع النظام، وهو ما سيسهم في عودة العراق إلى “نقطة الصفر”، على نحو يوضح سبب رفض غالبية النواب من قوى تحالف الإطار التنسيقي الذي يمثل الكتلة البرلمانية الكبرى (داعمة للحشد الشعبي)، لإقرار هذا القانون نظراً لكونه يتعارض مع أجنداتها الهادفة لنباء نفوذ لها داخل المؤسسة العسكرية العراقية بحيث تصبح لها “الكلمة العليا” في العراق تنفيذاً لأجندات خارجية.
3- عودة حلم أكراد العراق في الانفصال وإقامة دولة كردية: رغم أنه من المفترض أن يؤدي التجنيد الإلزامي إلى جمع مكونات الكتل السياسية في الدولة ضمن مؤسسة واحدة رسمية ممثلة بالجيش بمختلف صنوفه ولخدمة علم واحد، خاصة أن الجيش العراقي قبل 2003 كان يضم (العرب والكرد والسنة والشيعة والتركمان والأقليات الأخرى)، إلا أن هذا القانون الذي من المفترض أن يشمل سكان إقليم كردستان العراق؛ قوبل برفض من قبل شباب الإقليم، فوفقاً لما أجرته بعض وسائل الإعلام العراقية من مقابلات لاستطلاع رأي الشباب الأكراد حول هذا القانون، كان رد الفعل رفضاً عارماً، إذ أكدوا أنهم مستعدون فقط لخدمة كردستان وليس الحكومة العراقية والانصياع فقط لقرارات وحدات البشمركة حتى لو كانت إلزامية (قوة محلية معترف بها رسمياً في الدستور العراقي، وتلعب دور جيش خاص بإقليم كردستان العراق) وليس الجيش العراقي، وفي هذه الحالة فإن المواطن الكردي سيكون ولاءه للخدمة في البيشمركة مما قد يعيد حلم انفصال إقليم كردستان بشكل نهائي عن العراق وإقامة دولتهم الخاصة.
4- إحداث تأثير سلبي على الاقتصاد العراقي: تتطلب الخدمة العسكرية الإلزامية وجود موارد مالية ضخمة حتى تستطيع الدولة دفع الرواتب الشهرية للمكلفين بتأدية هذه الخدمة، فضلاً عن حاجتها لتدشين مراكز تدريب ومعسكرات للتجنيد، وهو ما يضع على العراق مشكلات مالية كبيرة وأزمات اقتصادية قد تدفعها إلى زيادة معدلات الاقتراض من الخارج، وبجانب ذلك فإن سوق العمل قد يتأثر لعدم وجود القوة العاملة التي تغطي احتياجاته، لأنه في هذه الحالة قد يختار بعض الشباب مواصلة تعليمهم الجامعي من أجل تجنب الخدمة العسكرية أو تقليل مقدار الوقت الذي يحتاجون إليه للخدمة بالحصول على درجات عملية أعلى، وهو ما سيؤدي إلى الضغط على المؤسسات التعليمية ذات القدرات المحدودة، وسيؤدي إلى تضخيم عدد الخريجين أكثر مما يتطلبه سوق العمل الفعلي وارتفاع معدل البطالة، وعليه طالب البعض الدولة العراقية بتوجيه الميزانية الموجهة للتجنيد الإلزامي إلى إقامة مشاريع مستدامة لتطوير البنية التحتية لإعادة بناء البلاد بعد عقود من الحرب والفساد.
5- ازدياد حدة الانقسام بين طبقات المجتمع: أفاد اتجاه في الكتابات بأن التجنيد الإلزامي قد يسهم في نمو الفساد، إذ قد تتجه بعض فئات الشعب خاصة ذات الدخل المرتفع إلى تعويض الخدمة العسكرية الإجبارية بدفع مبلغ من المال للدولة يعفيها من قضاء هذه الخدمة، وهذا من شأنه أن يمنح الطبقة العليا القدرة على تجنب الخدمة العسكرية ووضع عبء ثقيل على الأسر الأقل ثراء، مما يخلق انقساماً حاداً بين طبقات المجتمع، وقد تستغل الجماعات الإرهابية تلك النقطة تحديداً لضم المزيد من الأفراد إلى صفوفها بدافع قتال الجيش العراقي لأنه يفرق بين الطبقات، وبدلاً من أن يقوم التجنيد الإلزامي بمحاربة الإرهاب سيكون أداة لتنامي الإرهاب.
خيار مستبعد
خلاصة القول، إن قانون التجنيد الإلزامي في العراق كما له إيجابيات فهو أيضاً له سلبيات جمة، خاصة إذا كان تطبيقه في بلد يعاني من أزمات في مختلف المناحي، ومن فصائل متعددة تتحكم في عملية صنع القرار. وعليه فمن المتوقع أن يلقى هذا القانون مجدداً رفضاً داخل البرلمان العراقي ذي الأغلبية الشيعية لتعارضه بشكل خاص مع الأجندة الإيرانية التي لا تريد أن يكون للعراق جيش قوي يضم مختلف الفئات والأطياف والتيارات السياسية المختلفة.