جلسة استماع:
إشكاليات إعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية

جلسة استماع:

إشكاليات إعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 24 أغسطس 2022، جلسة استماع بعنوان “إشكاليات إعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية”، واستضاف المركز اللواء دكتور محمد قشقوش، مستشار بأكاديمية ناصر العسكرية العليا (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عددٌ من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: اللواء الدكتور أسامة إبراهيم، والدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذة ثريا فتحي.

محددات ضرورية

يؤكد “قشقوش” على أن مهمة بناء الجيوش مهمة صعبة، حتى في ظل حالة الاستقرار للدولة المركزية، وتكون الإشكالية أكثر صعوبة عند إعادة بناء جيش لدولة تحمل بعض أو كل عناصر التفكك. ويُحدد عدداً من المحددات الرئيسية التي يشترط توافرها عند الشروع في عملية بناء الجيوش، وهي كالتالي:

1- مفهوم القوة الشاملة: وترتكز على (الموقع الجغرافي – القوى البشرية والاقتصادية – التصنيع العسكري – العدائيات – التحالفات والعلاقات الخارجية).

2- العقيدة العسكرية والقتالية: وتُبنى العقيدة العسكرية على السياسة القومية العليا للدولة، ومجالها الحيوي ونفوذها وتأثيرها المحلي أو الإقليمي أو الدولي، أمام العقيدة القتالية، ويقصد بها أسلوب وتكتيكات تنفيذ المهام القتالية طبقاً للمدرسة العسكرية والتسليحية.

3- القوة الاقتصادية: وهي ما يتصل بما يتوفر من ميزانيات الدفاع، ونسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي ونسبة الإرهاق الاقتصادي.

4- مدى التقدم العلمي: إذ ننظر إلى مجال البحث العلمي في الدولة وميزانيته ومصادره، وانعكاسات ذلك على المجال العسكري، ومدى الاستفادة من الطفرات العلمية أثناء وبعد الحروب.

 حدود القدرات

ويتطرق “قشقوش” إلى أسباب تفكك الجيوش في دول الأزمات العربية، مقارنة بين خمس دول رئيسية (العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والصومال)، وبخلاف بعض الأسباب المتفردة لكل دولة على حدة، فإن ثمة قواسم مشتركة في تلك الأسباب، وفي مقدمتها: أحداث الربيع العربي، والتدخل الخارجي، والتعدد العرقي، وظاهرة الإرهاب.

وبشكل عام، يمكن الإشارة إلى قياس مدى قدرة دول الأزمات العربية على إعادة بناء جيوشها بعد التفكك، بناءً على المحددات والمقومات الرئيسية لبناء الجيوش، وفقاً للجدول التالي:

 ويُوضح المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية أن استخدام لفظة “الشرقية” في الجدول السابق يعني العقيدة العسكرية والقتالية (الروسية والصينية)، أما “الغربية” فتعني (الولايات المتحدة وأوروبا، وبشكل خاص حلف شمال الأطلسي).

إشكاليات رئيسية

يتطرق “قشقوش” إلى عددٍ من الإشكاليات التي تواجه عملية إعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية، والتي تتداخل مع بعض اتجاهات النقاش للخبراء والباحثين المشاركين في الجلسة، وأبرزها:

1- تدخلات الأطراف الدولية والإقليمية: تعرقل الأدوار المختلفة والتنافسية بين الأطراف الدولية، مساعي إعادة بناء الجيوش، في إطار تساؤل مهم يتعلق برغبتها الحقيقية في الانخراط في دول الأزمات العربية، وهل هي جادة في دعم مسارات إعادة بناء الجيوش، حيث لم تُقدم الولايات المتحدة على إعادة بناء حقيقي للجيش العراقي، كما أن التنافسية بين بعض الأطراف في بعض الدول تكون مؤثرة، مثل التنافسية بين تركيا وروسيا، كما أن ثمة خلافات بين بعض الأطراف الإقليمية في دعم بعض الاتجاهات السياسية أو الرغبة في توسيع النفوذ. وهنا، يمكن الإشارة إلى عدم رغبة تركيا في بناء جيش عراقي وسوري قويين، في مساعٍ للسيطرة على الشريط الحدودي مع سوريا، والتدخلات العسكرية في العراق، خاصة أن اتفاقية لوزان تنتهي العام الماضي، بما يعني تفكير تركيا في استعادة ما كان خاضعاً لها، وربما التفكير في مقايضة شمال سوريا مقابل التنازل عن الموصل العراقية التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية.

2- تعاظم ظاهرة “تجييش المليشيات”: يتضح خلال السنوات القليلة الماضية أن ثمة اتجاهاً فيما يمكن تسميته بـ”تجييش المليشيات”، بمعنى أن المليشيات باتت تمتلك أسلحة بعضها متطور في بعض الدول، وباتت تحل محل الجيش الوطني، خاصة أن هذه المليشيات باتت تستفيد من حالة الحرب، في ضوء ما تجنيه من أرباح ومكاسب مادية، وبالتالي فإن استدامة الصراعات والأزمات يصب في صالحها، بصورة تدفع للتساؤل حول الدافع الذي قد يدفع تلك المليشيات إلى الانخراط في إعادة بناء الجيوش الوطنية، أو تسليم سلاحها، ويتصل بذلك درجة الثقة في إدماج تلك المليشيات في الجيش الوطني من الأساس، في ظل إمكانية انسحاب بعضها من الجيش والعودة لنشاط المليشيات.

3- استدامة الصراعات السياسية: يظل استمرار الخلافات السياسية بين المكونات المختلفة عاملاً مؤثراً في عرقلة إعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية،لارتباطها بنجاح الحلول السياسية المستقرة ذات الضمانات لاحتواء الأزمات المستدامة، إذ لا يمكن التفكير في عملية بناء الجيش إلا بحلول سياسية، والاتفاق على تفاهمات معينة، من خلال بناء الثقة، واختبار هذه الحلول السياسية لفترة زمنية، وهل هي قادرة على الصمود أم لا؟

4- غياب مفهوم الدولة المركزية: إحدى الإشكاليات التي تواجه إعادة بناء الجيوش، هو غياب مفهوم الدولة الوطنية المركزية عن الأطراف المتصارعة في دول الأزمات، وعدم وجود رؤية وطنية لحل تلك الأزمات، خاصة في ظل تصاعد اتجاهات “التقسيم والتفتيت”، سواء بالنسبة لمخططات دولية وإقليمية، أو على مستوى الدولة الواحدة، من خلال الصراعات القبلية والعرقية المتزايدة، وبدء الحديث عن استقلال بعض المناطق في دول الأزمات. على سبيل المثال، في جنوب اليمن هناك دعوات للانفصال. وأيضاً في ليبيا تدور محاولات حل الأزمات حول الشرق والغرب، ولكن ماذا عن جنوب ليبيا؟، فكيف يمكن إعادة بناء الجيش ومثل هذه الدعوات قائمة وتتزايد.

5- تفاوت القدرات الاقتصادية: هناك قوائم مشتركة في أسباب تفكك الجيوش في دول الأزمات العربية، وعند الحديث عن إعادة البناء، فإن إحدى أبرز الإشكاليات هي تفاوت القدرات الاقتصادية اللازمة،فهناك دول قادرة بحكم القوة الاقتصادية وتوافر مصادر التمويل من الناتج المحلي مثل ليبيا أو العراق، على إعادة بناء الجيش، في مقابل ضعف القدرات الاقتصادية في الصومال واليمن، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى عدم القدرة على اتخاذ خطوات متقدمة في مسار إعادة بناء الجيش.

6- معضلة السيادة الكاملة في دول الأزمات: لا يمكن الحديث عن إعادة بناء جيش في ضوء عدم ممارسة دول الأزمات السيادة الكاملة على أراضيها، وفي ظل وجود أطراف متعددة دولية وإقليمية تدعم بعض الأطراف هنا وهناك، ووجود قواعد عسكرية لأطراف خارجية،وما يتصل بذلك من إشكالية تداخل وتعدد المدارس التدريبية، وهو ما يجب وقفه، إذ إنها أزمة لن تُساهم في تشكيل حالة انسجام داخل مكونات الجيش الوطني في أي دولة.

7- تصاعد دور شركات الأمن الخاصة: وهي قضية إشكالية ذات طابع دولي وليس إقليمياً محلياً، مثل انخراط شرطة “بلاك ووتر” الأمريكية في العراق في مهام معينة مقابل أموال، بدلاً من الاعتماد على قوات الجيش الأمريكي وسقوط قتلى منهم، والآن هناك تصاعد لدور شركة “فاغنر” الروسية، وانخراطها في بعض دول الأزمات العربية، دون محاسبة قانونية لدور تلك الشركات، فذلك “إرهاب مدفوع الثمن”، والاعتماد عليها يؤثر على إعادة بناء الجيش.

خارطة عمل

وأخيراً، يُقر “قشقوش” بضرورة وضع خارطة عمل لإعادة بناء الجيوش في دول الأزمات العربية، لكل دولة على حدة، على اعتبار خصوصية كل حالة، بما يستدعي التدخل وفقاً للمعطيات المتاحة، فضلاً عن التكيف مع المتغيرات السياسية والعسكرية في كل دولة بشكل منفرد، في ضوء التقلبات المتلاحقة، على خلفية صراعات سياسية وعرقية وقبلية.

واتجهت بعض النقاشات خلال الجلسة إلى ضرورة وضع فلسفة واضحة ومحددة لبرامج الإصلاح في دول الأزمات، يمكن الاعتماد عليها في إعادة بناء الجيوش، من خلال خطة عمل حقيقية تتضمن هيكلة للمؤسسة العسكرية، تتسم بالمرونة والتطور مع ضرورة إجراء تقييم بشكل مستمر، والاعتماد على الأطراف الفنية الفاعلة في كل دولة، وإشراك المجتمع المدني لتعزيز الاستجابة المجتمعية لرؤية إعادة بناء الجيش، ومواجهة حمل السلاح، مع وضع أطر زمنية لخطة تتضمن مراحل تمهيدية لجمع السلاح، وتشكيل قوة عسكرية قوية يتم تأهيلها لتكون نواة يمكن البناء عليها، بدلاً من اندماج مليشيات بشكل مؤقت وتكتيكي وفقاً لمصالحها، ثم الاتجاه للانسحاب من الجيش عند تضارب المصالح.