في ظلّ حالة التراجع الكبير التي أصابت حزب العدالة والتنمية في المغرب منذ هزيمته في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أُجريت في سبتمبر 2021، وحصوله على 13 مقعداً فقط في البرلمان بعد أن كان له 125 مقعداً في البرلمان السابق؛ يسعى الحزب إلى استعادة مكانته في المشهد السياسي الحالي بالمغرب، محاولاً اتخاذ بعض الإجراءات أو المواقف التي تُساعده على ذلك.
إجراءات ثلاثية
شهدت الفترة الأخيرة نشاطاً ملحوظاً لقادة وأعضاء حزب العدالة والتنمية، سواء داخل البرلمان أو خارجه، وذلك في شكل اتخاذ بعض الإجراءات التي قد تساعده على إعادة ثقة الناخبين فيه مرة أخرى، وأن يُصبح جزءاً من المشهد السياسي في البلاد خلال المرحلة القادمة، ومن هذه الإجراءات ما يلي:
1- طرح المبادرات ذات الطابع الاجتماعي: ففي 26 ديسمبر 2022، طرح القيادي السابق بحزب العدالة والتنمية “عبد العزيز الرباح” (وزير التجهيز والنقل السابق في حكومة “عبد الإله بنكيران”، ووزير الطاقة والمعادن في حكومة “سعد الدين العثماني”) جمعية مدنية في مدينة “الرباط” أطلق عليها “مبادرة الوطن أولاً ودائماً”، وتم انتخابه رئيساً لهذه الجمعية، والتي تهدف بشكل أساسي إلى التركيز على العمل الاجتماعي والاقتصادي، والبعد عن الشؤون السياسية (وفقاً لتصريحات “الرباح”)، والتركيز فقط على السياسات والبرامج التنموية على المستويين الوطني والمحلي.
2- تصعيد نهج المعارضة داخل البرلمان: يتبنى حزب العدالة والتنمية منحى تصعيدياً داخل البرلمان، واتخذ هذا التصعيد عدة صورة، من أهمها ما يلي:
رفض قانون المالية، تصويت الكتلة النيابية للحزب داخل البرلمان على بعض مشروعات القوانين، ومن أبرزها التصويت ضد مشروع قانون المالية لعام 2023، واستند الحزب في هذا الرفض إلى أن القانون لم يرتقِ لطموحات وتطلعات الشعب المغربي، حيث لم يتضمن القانون الجديد مقترحات لتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، وحل أزمة ارتفاع أسعار السلع الضرورية والخدمات في الأسواق الداخلية، هذا بالإضافة إلى أنه لم يتضمن إجراءات لتخفيف الأعباء الضريبية المفروضة على المواطنين، والتي لها تداعيات على الطبقات الفقيرة تحديداً داخل المجتمع.
تقديم مقترحات تشريعية، حيث طرحت الكتلة النيابية للحزب في البرلمان مقترح قانون جديد يقضي بتغيير وإكمال القانون رقم (41.22) المتعلق بإنشاء “مؤسسة مشتركة للنهوض بالأعمال الاجتماعية” لمصلحة موظفي وأعوان الإدارات العمومية (العامة). ويهدف هذا المقترح لإعفاء المؤسسات الاجتماعية من الضريبة المضافة على الخدمات التي تقدمها، وفي ذلك محاولة من الحزب للتأكيد على اهتمامه بالدفاع عن المؤسسات ذات الطابع الاجتماعي وما تقدمه من خدمات لعموم أفراد الشعب، بما يصب في مصلحة تعزيز موقع الحزب داخل المجتمع.
رفض التطبيع مع إسرائيل، وهو ما ظهر في تصويت الكتلة النيابية للحزب ضد اتفاقيتين؛ الأولى تتعلق بالتعاون الاقتصادي والتجاري بين المغرب وإسرائيل الموقع بالرباط في 21 فبراير 2022، والثانية تتعلق بمشروع القانون الثاني الذي يتم بموجبه الاتفاق بشأن الخدمات الجوية بين الرباط وتل أبيب الموقع في 11 أغسطس 2021، واللتين حازتا موافقة أغلبية نواب البرلمان بموافقة 167 عضواً، حيث حاول الحزب من خلال هذا الرفض إيصال رسالة إلى المجتمع المغربي بتمسك الحزب بموقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل، وإمكانية توظيف ذلك لاستعادة ثقة الناخبين في الحزب مرة أخرى.
3- تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: حيث يعمل حزب العدالة والتنمية بعد أن انضم إلى صفوف المعارضة السياسية على توظيف المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المملكة المغربية في محاولة لاستعادة مكانته في المشهد السياسي، ومن ذلك تنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر البرلمان في مدينة “الرباط” في شهر أكتوبر الماضي نظمتها النقابة التابعة للحزب “اتحاد الشغل الوطني” (الذراع النقابي للإخوان المسلمين) تعبيراً عن رفضه لتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، واعتراضاً على ما وصفه حزب العدالة والتنمية بالصمت الحكومي تجاه المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون، وطالب الحكومة الحالية برئاسة “عزيز أخنوش” بضرورة تصحيح مسار الحوار الاجتماعي، واتخاذ سياسات وإجراءات اقتصادية للحد من تداعيات المشكلات الاقتصادية على الطبقات الفقيرة.
دلالات سياسية
تحمل الإجراءات التي يقوم بها حزب العدالة والتنمية بغرض العودة للمشهد السياسي المغربي، عدداً من الدلالات السياسية الهامة، من أبرزها ما يلي:
1- محاولة جس نبض الشارع المغربي: تندرج بعض الإجراءات التي يسعى حزب العدالة والتنمية لاتخاذها، ومنها مبادرة “الوطن أولاً ودائماً”، فيما يمكن أن يطلق عليه “بالون اختبار” أو بمعنى جس نبض الشارع المغربي ومعرفة آراء المواطنين وتوجهاتهم إزاء مثل هذه المبادرات، سواء بالاستجابة معها أو برفضها، وهو ما سيتحدد على أساسه مدى نجاح هذه الإجراءات في تحقيق أهدافها أم لا، حيث يرى الخبراء أن هذه المبادرة ما هي إلا “واجهة دعوية” لحزب العدالة والتنمية، يعمل من خلالها على الانخراط داخل المجتمع أولاً، ثم الانتقال إلى العمل السياسي في مرحلة لاحقة بعد أن تنجح هذه الواجهة في جذب الأنصار والمؤيدين من مختلف فئات وطبقات المجتمع المغربي، خاصة وأن الأعمال الاجتماعية توفر اتصالاً مباشراً مع المواطنين.
2- المعاناة من انقسامات وخلافات متصاعدة: يعكس التحول في الموقف الخاص بالقيادي السابق بحزب العدالة والتنمية “عبد العزيز الرباح” والذي أعلن تجميد عضويته في الحزب عقب إعادة انتخاب “عبد الإله بنكيران” أميناً عاماً للحزب بعد خسارة الحزب في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويرجع ذلك إلى تصاعد الخلافات بين “الرباح” و”بنكيران” حول سياسات ومواقف الحزب والتي أدت إلى تراجعه بهذا الشكل في 2021، كما أن هذه الخلافات تصاعدت بينهما عقب تجميد “الرباح” عضويته في الحزب، في مؤشر هام على دور “بنكيران” في تأجيج الخلافات مع القيادات القديمة في الحزب، وعدم إتاحة المجال أمامهم للعودة مرة أخرى للحزب.
3- العمل على تأسيس حزب سياسي جديد: رغم نفي “عبد العزيز الرباح” رئيس جمعية مبادرة “الوطن أولاً ودائماً” أن تكون هذه الجمعية نواة لتأسيس حزب سياسي جديد منشق عن حزب العدالة والتنمية، إلا أن اشتراك العشرات من الأعضاء السابقين والمستقلين من حزب العدالة والتنمية في أعمال الجلسة التأسيسية لمبادرة “الوطن أولاً”، تشير إلى غير ذلك تماماً، فقد شارك في هذه المبادرة العشرات من الأعضاء، ومنهم أفراد من الجالية المغربية المقيمة بالمهجر، وأعضاء سابقون في الحزب، وشخصيات أخرى غير معروفة، ومنهم “جهاد رباح” ابنة “عبدالعزيز رباح” وذلك رغم كونها عضواً في الأمانة العامة، حيث من المتوقع أن تتحول هذه الجمعية المدنية إلى حزب سياسي جديد يتبنى أفكار وتوجهات الإخوان المسلمين نفسها ولكن بواجهة جديدة مغايرة لحزب العدالة والتنمية بعد أن تراجعت مكانته في البلاد بشكل كبير خلال العام الأخير.
4- استقطاب المزيد من المؤيدين عبر أدوات مختلفة: تعكس الإجراءات التي يحاول حزب العدالة والتنمية اتخاذها مدى رغبة قادته الحاليين وعلى رأسهم “عبد الإله بنكيران” في استقطاب المزيد من الأنصار عبر توظيف الأدوات الإعلامية والنقابية والدينية للحزب، مستغلاً كافة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد لتحقيق هدف جذب المزيد من المؤيدين لتكوين قواعد شعبية جديدة يمكن الاعتماد عليها لاحقاً.
عقبات قائمة
ورغم الإجراءات التي يحاول حزب العدالة والتنمية اتخاذها وتطبيقها لاستعادة مكانته في المشهد السياسي بالبلاد، إلا أنه لا تزال هناك بعض العقبات التي قد تقف في طريق ذلك، وتحد من فرص نجاح هذه الإجراءات في تحقيق هدفها، ومن بينها ما يلي:
1- التعرض لانشقاقات محتملة، تخشى القيادات الكبيرة في الحزب من احتمالات انشقاق المزيد من أعضاء الحزب واتجاههم لتشكيل حزب سياسي جديد، أو الانضمام لمبادرة “الوطن أولاً ودائماً” وتأسيس حزب سياسي جديد، في ظل ما يعانيه الحزب من خلافات وانقسامات في الآراء والتوجهات بين الأمين العام الحالي للحزب “عبد الإله بنكيران” والأعضاء المختلفين معه، وربما ينجح رئيس مبادرة “الوطن أولاً ودائماً” في جذب المزيد من هؤلاء الأعضاء ومن ثم تأسيس حزب جديد.
2- ممارسات “بنكيران” الخاطئة، من أهم التحديات التي تواجه الحزب حالياً وتعد سبباً رئيسياً في تصاعد الخلافات والانقسامات داخله، هو الخلاف حول أداء أمينه العام “عبد الإله بنكيران”، وهو ما ظهر في تنامي حالة من السخط بين أعضاء وقيادات الحزب تجاه “بنكيران”، دفعت الكثير منهم لمقاطعة اجتماعات الأمانة العامة للحزب، حيث يتهم هؤلاء “بنكيران” بعدم قدرته على إعادة ترتيب أوراق الحزب من جديد بشكل يدفعه نحو العودة لمكانته السابقة، واتهامه أيضاً بالفشل في تبني مواقف خاطئة كشفت عن حجم الرفض الشعبي للحزب وسياساته، وهو ما اتضح في الاحتجاجات التي دعا إليها في شهر أكتوبر الماضي ضد غلاء الأسعار والتي لم يشارك فيها سوى أعداد قليلة، وفي المقابل يشكو “بنكيران” من تعرضه لمضايقات على يد بعض قيادات الحزب، وهو ما ينم عن واقع العلاقات البينية داخل الحزب.
3- فقدان القواعد الشعبية، حيث كانت خسارة الحزب في الانتخابات التشريعية الأخيرة وتراجع أعداد المقاعد التي حصل عليها من 125 مقعداً إلى 13 مقعداً فقط في البرلمان الجديد، مؤشراً هاماً على حقيقة فقدان الحزب لقواعده الشعبية التي كان يعتمد عليها في الحصول على نتائج إيجابية تمكنه من البقاء في صدارة المشهد السياسي، إلا أن فشل سياسات ومواقف الحزب خلال السنوات العشر الأخيرة أدت إلى ذلك التراجع الكبير، ولا يزال تأثير تداعيات هذه الأخطاء ممتداً حتى الآن، وهو ما يمثل أكبر تحدٍّ بالنسبة للحزب بشأن كيفية استعادة ثقة الناخبين والشارع المغربي مرة أخرى.
4- تراجع القدرة على الحشد، كشفت الوقفات الاحتجاجية التي دعا إليها “عبد الإله بنكيران” الأمين العام للحزب ونظمها الاتحاد الوطني للشغل، عن تراجع قدرة الحزب وذراعه النقابية على حشد الأنصار والتابعين، حيث لم يتعد عدد المشاركين في تلك الوقفة الاحتجاجية 2000 مواطن فقط، وغيرها من المناسبات التي حاول فيها الحزب معارضة رئيس الحكومة الحالية “أخنوش”، وهو ما منح معارضي “بنكيران” داخل الحزب الفرصة للهجوم عليه، واتهامه بالفشل في اتخاذ هذا القرار الذي كشف الغطاء عن الوضع غير المستقر الذي أصبح عليه الحزب حالياً.
فرصة محدودة
الخلاصة، تكشف الإجراءات المشار إليها إلى محاولة حزب العدالة والتنمية العودة ليصبح جزءاً من المشهد السياسي المغربي خلال المرحلة القادمة، إلا أن المعطيات الراهنة ترجح محدودية فرص نجاح هذه الإجراءات في تحقيق هذا الهدف على المدى القصير.