أثناء عملي دبلوماسياً في العاصمة الهندية في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وجّهت أنديرا غاندي رئيسة الوزراء، دعوة شخصية للكاتب المصري الكبير عميد الروائيين للقصة القصيرة الدكتور يوسف إدريس، لزيارتها في الهند، على أن يكون ضيفاً على الدولة باعتباره نموذجاً متفرداً، لمكانته المرموقة في أدب الرواية العربية، وتحديداً في مجال القصة القصيرة.
وقد قبل الدكتور إدريس الدعوة وتحدد لها موعد بالتنسيق بين السفارة المصرية في نيودلهي ومكتب رئيسة الوزراء، ووصل الضيف الكبير مبعوث الثقافة العربية إلى الهند، وجرى استقباله من جانب وزارة الثقافة والتعليم بما يليق به ضيفاً على الدولة بدعوة من رئيسة الوزراء القوية، وذات المكانة العالية لدى الشعب الهندي حينذاك، وكانت عائدة إلى موقعها رئيسة للوزراء بأغلبية ساحقة، بعد أن أقصيت عنه قبل ذلك بعامين عندما سقطت في دائرتها الانتخابية، وتولى رئاسة الوزراء في تلك الفترة سياسي عجوز هو موراجي ديساي، لذلك كانت دعوة أنديرا ليوسف إدريس بمثابة رغبة منها للاستماع إلى تحليل فكري ثقافي للحالة المصرية بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في 26 مارس/ آذار 1979 وظهور القطيعة الدبلوماسية بين القاهرة ومعظم العواصم العربية.
وكان من حظي بحكم معرفتي السابقة بالأديب الكبير أن أكون مرافقاً له فترة وجوده في العاصمة الهندية، وقد ذهبت معه إلى لقاءٍ منفرد مع أنديرا غاندي التي رحبت به ترحيباً كبيراً لأنها تعرفه من قبل، وقد ظل الدكتور إدريس يقبلها ويلثم يديها في مودة ظاهرة وإعجاب نظيف، وهي تضحك من فرط السعادة لوجوده، وقد استقبلته رئيسة الوزراء مرتين في الأيام القليلة التي قضاها معنا في نيودلهي، حيث زار جامعة جواهر لال نهرو، وعدداً من المؤسسات الثقافية والمراكز البحثية في الهند، كما استقبله عدد من كبار المثقفين والمسؤولين عن الفنون والآداب في عاصمة الأمة الهندية، وتمكن يوسف إدريس في هذه الزيارة من أن يترك أثراً قوياً في دوائر الفكر والثقافة بالهند، وترك انطباعاً إيجابياً، برغم ظروفه الصحية والنفسية في تلك الفترة من بداية حكم الرئيس مبارك، بعد اغتيال الرئيس أنور السادات.
ولأن يوسف إدريس مدمن على السهر وسمر الليالي – وهي صفات لا يتحمس لها سفير مصر في الهند الفقيه القانوني د.نبيل العربي – لذلك وقع عليّ عبء استكمال السهرات مستمتعاً بحوارٍ متصل مع رائد القصة القصيرة بين الرواة المصريين والكتاب العرب، وقد حكى لي د. يوسف إدريس قصة طريفة لا أنساها، وهي أن صدام حسين أرسل له دعوة عن طريق المكتب الصحفي العراقي في القاهرة لزيارة بغداد، خصوصاً أن يوسف إدريس وصدام حسين كانا يعرفان بعضهما بعضاً خلال فترة اللجوء السياسي لصدام في القاهرة في ستينات القرن الماضي، فدعاه الرئيس العراقي بعد اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية التي لم يكن يوسف إدريس متحمساً لها مع بدايات القطيعة العربية مع مصر، لذلك قبل الدعوة، وما إن وصل إلى مطار بغداد وجرى استقباله بترحاب شديد وكرم زائد، حتى قيل له إننا لن نذهب إلى القصر الجمهوري، فالرئيس في مهمة في إحدى ضواحي بغداد، وسنذهب إليه هناك.
وبالفعل مضت السيارات كيلومترات قليلة إلى قاعدة عسكرية صغيرة حيث بدأ يوسف إدريس يستمع إلى طلقات الرصاص المتقطع بين لحظة وأخرى، وهو ينتظر في السيارة إلى أن توقف صوت الرصاص وظهر صدام حسين مهللاً مرحّباً بيوسف إدريس، وقال له لقد كانت لدينا (وجبة) يقصد بها عملية تنفيذ أحكام الإعدام في عدد من معارضي صدام الذين سماهم المتآمرين على الحكم القائم في بغداد، وهنا قال يوسف إدريس لصدام حسين ألا تعلم أنني أجريت مؤخراً جراحة قلب مفتوح، وكدت أصاب بالإغماء من صوت الرصاص، ثم استطرد ضاحكاً لقد خشيت أن تدعوني لكي أنضم إلى قافلة الراحلين ممن تسميهم بالخونة في غمرة الحماس الذي شعرت به، وضحك الاثنان حينها، ولكن يوسف إدريس قال لي: إنني منذ تلك اللحظة آمنت بأن العدل وإعمال القانون هما أغلى ما يتطلع إليه الإنسان، وقد ظلت أحاديثي وحكاياتي مع يوسف إدريس نقاط ضوء في حياتي لأن علاقتنا تواصلت بعد عودته إلى القاهرة، خصوصاً بعد مقال له في «الأهرام» يشيد فيه بالدبلوماسي الشاب الذي رافقه أثناء زيارته للهند.
وقد كان من أسباب علاقتي الوثيقة به أنني رافقته أيضاً في لندن عندما جاء إليها للعلاج في منتصف سبعينات القرن الماضي، وكنت وقتها القنصل المصري تحت إشراف السفير الراحل محب السمرة الذي كان القنصل العام المصري بلندن في ذلك الوقت، وقد لفت نظري دائماً في يوسف إدريس رقته الزائدة وأفقه الواسع وقدرته على المزج بين الأدب والفن في صياغة تميز بها كاتب (أرخص الليالي)، وهو الطبيب الذي عرف أمراض الجسد المصري، وشعر بمعاناته منذ أن كان طبيباً مناوباً في قصر العيني ليلة اغتيال الشيخ حسن البنا، والذي ظل يتعاطى الأدب وهو يمارس الطب قبل أن يتفرغ لكتابة القصة القصيرة معشوقته التي اقتربت به من جائزة نوبل، ثم ابتعدت عنه لتصل إلى نجيب محفوظ بعد عام واحد من رحيل توفيق الحكيم الذي كان جديراً بها، هو وطه حسين والعقاد، ولكن محفوظ جاء بها إلى الأدب العربي عام 1988.. رحم الله الجميع.
نقلا عن الخليج