ودعت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السلطة، تنفيذاً لوعدها بالاستقالة، وعدم ترشيح نفسها مرة أخرى، على الرغم من عدم وجود منافسين حقيقيين لها، فقد أوضحت استطلاعات للرأي جرت مؤخراً أن قسماً كبيراً من الألمان يعتقدون بأن أفضل أيام ألمانيا الاقتصادية انتهت مع رحيل المستشارة، فقد شهدت ألمانيا استقراراً سياسياً واقتصادياً هو الأفضل في تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية، كما تمكّنت ألمانيا من تبوؤ القيادة السياسية لأوروبا، بعد أن أثبتت ميركل كفاءة عالية في التعامل مع الأزمات، ابتداء من أزمة منطقة اليورو، التي أعقبت الأزمة المالية العالمية، ووقوف ألمانيا إلى جانب عدد من الجيران الأوروبيين، ودعمهم لتجاوز أزماتهم المالية، خصوصاً اليونان، وانتهاء بجائحة كورونا، وتأثيرها على سلاسل الإمداد الأوروبية.
لم يسبق لامرأة ألمانية أن شغلت منصب المستشارة، في بلد كان استقراراه ومكانته وقوته، وما زال، بوصلة لأوروبا الموحدة، وعلى الرغم من حساسية هذا المنصب، فإن ميركل كانت محط ثقة مشتركة بين الأحزاب الألمانية، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية بين تلك الأحزاب، وهو ما يفسّر إلى حد كبير تراجع حزبها في الانتخابات التي جرت منذ أيام، فميركل تركت فراغاً كبيراً في الحزب المسيحي الديمقراطي؛ إذ يصعب، أقله حالياً، أن توجد شخصية كاريزمية في قيادة الحزب خلفاً لها، فقد كان واضحاً أن أرمين لاشيت، مرشح الحزب للانتخابات، لم يكن مقنعاً للناخبين، ولم يقدم أداء لافتاً خلال جولاته السياسية الداخلية العديدة.
ليست ألمانيا بعد ميركل محط سؤال سياسي واستراتيجي مشروع وحسب؛ بل أيضاً مصير أوروبا، فقد أوجدت نهجاً سياسياً، أصبح يطلق عليه «الميركلية»، وهذا النهج بالتحديد هو ما ستفتقده دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، في وقت هو من أصعب الأوقات في النظام الدولي؛ حيث تبرز متغيّرات كبيرة في سياسات الدول الفاعلة في السياسة، وفي سوق العمل الدولي، فالمنافسة الأمريكية الصينية تشهد فصولاً شرسة من المواجهة متعددة المستويات والمجالات، تدفع الولايات المتحدة لإعادة حساباتها العسكرية والأمنية، الأمر الذي زاد من منسوب المخاوف لدى الحلفاء الأوربيين، الذين تعوّدوا أن يكون أمنهم القومي والقاري شأناً أمريكياً، من خلال حلف «الناتو»، كما اعتادوا أن يكونوا شركاء في خطط واشنطن التجارية والتقنية والعسكرية والأمنية.
واجهت ميركل منذ عام 2014 تحديات عديدة؛ حيث تدخّلت روسيا عسكرياً في أوكرانيا، ومن ثم تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وبشكل خاص إلى ألمانيا، ومجيء الرئيس دونالد ترامب للحكم في أمريكا، وتعقيدات العلاقة الألمانية مع روسيا، نتيجة الاعتراض الأمريكي على خط «نورد ستريم 2»، لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وفي مختلف هذه المواقف تعاطت ميركل ببراغماتية عالية، في محاولة لتجاوز حالة الصدام المباشر مع واشنطن وموسكو، معوّلة على المصالح المشتركة أكثر من الخلافات، في إدراك لطبيعة التناقضات التي تمر بها القوى الفاعلة في النظام الدولي؛ بل ومحاولة الاستفادة من تلك التناقضات نفسها.
وعلى الرغم من ازدياد موجة الشعبوية السياسية في عدد من البلدان الأوروبية، ووصول عدد من الأحزاب القومية للسلطة، كما في إيطاليا والمجر، فإن ميركل آثرت الإبقاء على أكبر قدر ممكن من السياسات المنفتحة في ملف اللجوء، ما منح سياساتها بعداً إنسانياً خاصّاً، وأكسبها شعبية كبيرة في العالم، حتى أنها باتت تعرف باسم «ماما ميركل»، من دون أن تغفل في مناسبات عديدة التأكيد على وجود مصالح ألمانية وأوروبية في استقبال اللاجئين، في ظل التغيّرات التي طرأت على التركيبة السكانية الأوروبية.
وخلال العام الماضي، أصرّت ميركل على توزيع مناسب وعادل لحزم التحفيز المقدمة للدول الأوروبية التي تضررت اقتصاداتها جراء جائحة كورونا، وتمكّنت من تجاوز مواقف عدد من الحكومات الأوروبية التي أرادت وضع شروط قاسية على الدول التي ستحصل على حزم نقدية، وأوضحت ميركل أن الاقتصاد الأوروبي هو مسألة متكاملة، كما أن متانة الاتحاد الأوروبي السياسية تنبع في أحد صورها من القدرة على التضامن البيني بين أعضاء الاتحاد، والعمل المشترك لتجاوز الأزمات.
إذا أردنا وضع وصف مكثّف للسياسة «الميركيلية»، يمكن القول إنها خلطة من البراغماتية والحكمة والتضامن مع الشركاء، مع التأكيد على البعد الإنساني، لكن هل يمكن أن تستمر ألمانيا في هذه السياسة بعد رحيل المستشارة، وهل ستكون مثل هكذا سياسة ممكنة ومفيدة، أم أن الاستمرار في هذا النهج هو ما تحتاج إليه أوروبا، من أجل الحفاظ على روح التضامن، والاستقرار السياسي/ الاقتصادي؟
لا إجابات قاطعة، فالتحوّلات الراهنة أعقد من القدرة على التنبؤ.
نقلا عن الخليج