ليس سرًّا أن هناك نقاشًا مكتومًا ممتدًّا- منذ فترة ليست قصيرة- حول عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية، وأن هذا النقاش يتفاوت من دولة عربية لأخرى، فهو مطروح بوضوح فى عدد قليل منها، ولكنه مكتوم أو ضمنى يكاد يختفى من الحوار الرسمى والإعلامى فى العدد الأكبر من الدول العربية، وواضح أن هناك وجهتى نظر بهذا الصدد، ومع ذلك فإن طرحهما يتم على استحياء، ويغيب عنه النقاش العام أغلب الوقت، والحقيقة أن هذه القضية أصعب مما قد يبدو للوهلة الأولى.
الرأى- الذى يرى أن الأسباب التى أدت إلى تجميد عضوية دمشق فى الجامعة العربية لا تزال قائمة- لا يركز حاليًا على الأسباب الأصلية والمتعلقة بالظروف التى مرت بها المشكلة السورية من تردٍّ وعنف وتجاوزات أقدمت عليها الحكومة السورية وأغلب قوى المعارضة، وإنما التركيز حاليًا على العلاقة العضوية التى تربط نظام الحكم السورى بإيران، وأن كل الشواهد تشير إلى صعوبة توقع تراجع هذه العلاقات، وهنا نستذكر حديثًا فى مرحلة سابقة عن الدور الروسى والمراهنة عليه لتقليص الاعتماد السورى على الدعم الإيرانى، رغم أن هذا كان مشكوكًا فيه منذ البداية، ليس فقط بحكم العلاقات الوثيقة بين الدولتين الروسية والإيرانية رغم وجود تنافسات ومصالح متضاربة أحيانًا، ولكن لأن موسكو كانت تعتمد على دور إيران وحلفائها بريًّا منذ البداية،
ومع ذلك كانت هناك شواهد باحتمال قيام موسكو بهذا نسبيًّا لولا تعقد الموقف منذ عدة سنوات بنمط التدخل التركى والغربى لحرمان الجانب الروسى وحلفائه من النصر، ثم زاد الموقف تعقيدًا فى ضوء الحرب الروسية- الأوكرانية وتزايد صعوبة توقع قيام موسكو فى هذه المرحلة الصعبة بمحاولة تقليص حليفها الإيرانى الرئيسى فى الساحة السورية، ولعل قمة طهران الأخيرة تكون دليلًا واضحًا.
أما الرأى الثانى- الذى تبدو دولة الجزائر أكثر الداعمين له، ولا تخفف موسكو دعواتها ومطالبتها لأصدقائها من الدول العربية فى الدعوة إليه أيضًا، ويدعمه أيضًا عدد من المفكرين والكُتاب، وبعضهم من الداعين إلى التقارب مع إيران على أساس انطلاقهم من وجود عدو رئيس واحد، هو إسرائيل- فتدور حججهم فى هذا الاتجاه بالأساس، وهم لا يزالون ينظرون إلى النظام السورى بوصفه جزءًا من محور المقاومة ضد إسرائيل، ولا يمانعون فى التحالف مع إيران، بل بعضهم يدعو إلى هذا بصراحة ولو على قدر من الاستحياء بسبب اتضاح السياسات الإيرانية العدوانية مؤخرًا، وعلى هامش هذا الاتجاه مَن يقر بتجاوزات طهران، ولكنه يدعو إلى ضرورة إعادة دمشق إلى محيطها العربى لتخفيف اعتمادها على إيران.
ومع وجاهة وجهتى النظر، إلا أننى أعتقد أن المصارحة الكاملة هى المدخل الأساس فى مناقشة هذه القضية.
ويعتقد كاتب هذه السطور أن المصارحة يجب أن تبدأ بالتحفظ الكامل ضد منطق جبهة المقاومة هذه لأنه إذا كان ما نراه من تعدى هذا المنطق على سيادة عدة دول، على رأسها لبنان، فقد أثبت هذا المنطق فساده وسوءاته، وأن ما تركته السياسات الإيرانية العدوانية فى عدة أقطار عربية يمثل أكبر دليل على سوء استخدام حجة المقاومة ضد إسرائيل وتبرير كل تدخلاتها السلبية، التى حطمت مفهوم الدولة الوطنية فى أكثر من قطر عربى بما تجاوز تهديد المصالح العربية.
والنقطة التالية أن نقطة الانطلاق هى ضرورة اعتبار كثير من سياسات الأطراف الثلاثة الإقليمية العدوانية، أى إسرائيل وإيران وتركيا، خصمًا للمصالح العربية، ولكن فى عالمنا المعقد حيث تتداخل المصالح وتتشابك ولا تمنع حتى التناقضات الاستراتيجية من الحوار والتفاوض لترتيب المصالح يجب ألّا يتوقف هذا الحوار مع الأطراف الثلاثة، ولهذا الحديث تفاصيل وأبعاد كثيرة، ويؤكدها أولًا ما نراه أمامنا بالفعل من تفاعلات لا تنقطع مع هذه الأطراف.
وفى الحقيقة أن مربط الفرس فى مسألة سوريا هو كل التحولات وحالة السيولة الإقليمية التى تجرى حولنا والتهديدات الجدية التى يجب التنبه لها، وعلى رأسها التهديدات التركية الجدية فى الشمال السورى، ومرة أخرى هذه التهديدات أكثر خطورة من نمط التهديدات الإيرانية، بل ترسخ أقدام طهران فى سوريا التى تستثير أغلب العرب اليوم، كما ترسخ من اعتداءات واحتلال إسرائيل لأراضٍ سورية، صحيح أنه لحسن الحظ فإن هذه التحركات التركية محل رفض دولى أمريكى وروسى وكذا إقليمى، إلا أنه من الواضح أن سوريا أصبحت أهم منصات الصراع الدولى والإقليمى الجارى لإعادة رسم خريطة المنطقة، وأنها تلعب نفس الدور الذى كانت تلعبه تاريخيًّا فى لعبة الصراع الدولى والإقليمى، وفى مثل هذه الظروف يجب تجاوز مسألة محاسبة النظام السورى أو افتراض أن استمرار عزلته سيجعله يضحى بعلاقاته بإيران، وإنما يجب التركيز على ما هو استراتيجى وتهديد عميق للأمن القومى العربى فى مجمله، وأن عودة دمشق إلى المحيط العربى أمر ضرورى كخطوة أولى فى معالجة طويلة ومعقدة لما حدث فى هذا البلد المحورى، وأنه قد آن الأوان لهذا فى مرحلة تاريخية بالغة الصعوبة يجب التسلح فيها برؤية بعيدة وذات طبيعة استراتيجية.
نقلا عن الأهرام