لا يزال تنظيم “داعش” يشكل تهديداً في العراق، رغم فقدان مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرته قبل عام 2017. ومنذ ذلك العام، تتواصل العمليات العسكرية لملاحقة مجموعات التنظيم في أكثر من محافظة، خاصة مع بروز قدرة التنظيم على التكيف مع المتغيرات الميدانية.
وقد أطلقت العراق عملية عسكرية جديدة، في 19 فبراير الجاري، لتكون بمثابة المرحلة الثانية من عملية “سيوف الحق”، التي انطلقت مرحلتها الأولى قبل أسبوع تقريباً. ووفقاً لبيان وزارة الدفاع العراقية، فإن العملية العسكرية الجديدة انطلقت بإشراف قيادة العمليات المشتركة، على مستوى مناطق الجزيرة وغرب نينوى وصلاح الدين، وتهدف لملاحقة عناصر التنظيم في المناطق الصحراوية باتجاه الحدود السورية.
مؤشرات رئيسية
تأتي العملية العسكرية الجديدة في ظل تطورات عديدة طرأت على الساحة العراقية خلال المرحلة الماضية، ويتمثل أبرز مؤشراتها في:
1- تراجع النشاط العملياتي منذ بداية 2023: يشير منحنى النشاط العملياتي لمجموعات تنظيم “داعش” في العراق إلى استمرار التذبذب في عدد العمليات بشكل شهري، في ظل عدم القدرة على الحفاظ على وتيرة تقترب من الثبات لشهرين متتابعين، وفقاً لما يوضح المخطط المرفق، الذي يعتمد على حصر العمليات التي أشارت إليها وكالة “أعماق” الموالية لتنظيم “داعش”، عبر حساباتها على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي خلال الفترة (أبريل 2022 – 20 فبراير 2023)، بالنظر إلى أن شهر أبريل الماضي سجل أعلى معدل عمليات للتنظيم خلال عام 2022، وهو الشهر نفسه الذي أطلق التنظيم خلاله موجة عنف، عقب مقتل زعيمه أبو إبراهيم الهاشمي القرشي.
ورغم اختلاف عدد العمليات المعلن رسمياً من قبل التنظيم عبر صحيفته الأسبوعية “النبأ”، عن العمليات التي تعلنها وكالة “أعماق”؛ إلا أن بيانات الأخيرة تعطي مؤشرات لاتجاهات النشاط العملياتي، لتقديمها تفاصيل تلك العمليات، وإن كانت محدودة.
ويتضح من خلال المخطط البياني تراجع النشاط العملياتي منذ بداية عام 2023، مقارنة بشهر ديسمبر الماضي الذي سجل أعلى معدل منذ أكتوبر 2022. وعلى الرغم من أن شهر يناير كان أقل في عدد العمليات مقارنة بشهر ديسمبر، إلا أنه سجل معدلاً أعلى من شهري أكتوبر ونوفمبر.
2- تضارب التقييم الرسمي حيال تهديدات “داعش”: يتسم الموقف الرسمي العراقي بالتضارب حيال تقييم تهديدات تنظيم “داعش” بالنسبة للعراق،مع نظرة مستقبلية حذرة، مدفوعة بتخوفات من قدرة التنظيم على استعادة نشاطه بشكل بارز، بما يؤدي إلى تفاقم الوضع الأمني، وتحديداً فيما يتعلق بإمكانية نجاح التنظيم في تحرير عناصره وأسرهم من السجون والمخيمات في مناطق شمال شرقي سوريا.
وتتسم تصريحات المسئولين العراقيين بالتضارب حيال تقييم التهديدات الحالية للتنظيم، إذ سبق لمستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي إطلاق تصريحات تؤكد استمرار تهديدات مجموعات التنظيم، حيث قال: “تنظيم داعش لا يزال يشكل خطراً على بلاده والمنطقة”، خلال استقباله مساعد وزير الدفاع الأمريكي سيليست والاندر.
وفي المقابل، فإن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قال، خلال مؤتمر ميونخ للأمن، في 19 فبراير الجاري: “إن تنظيم داعش الإرهابي انتهى عسكرياً في العراق”.
3- تباين المواقف من دعم “التحالف الدولي”: بموازاة تضارب التقييم الرسمي حيال تهديدات تنظيم “داعش” في العراق، فإن ثمة تبايناً في المواقف حيال حدود الاعتماد على التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومكافحة مجموعات التنظيم التي لا تزال تنشط على الساحة العراقية.
إذ أكد رئيس الوزراء العراقي عدم حاجة العراق إلى قوات قتالية من التحالف الدولي، ولكن هناك حاجة إلى استمرار التدريب والاستشارة. ولكن في المقابل، فإن موقف قوات “البيشمركة” التابعة لإقليم كردستان العراق يخالف هذه التوجهات، وهو ما أبرزه مسئول المحور السادس في قوات “البيشمركة” سيروان بارزاني، في نهاية يناير الماضي، حينما قال: “إن القوات الأمريكية يجب أن تبقى في العراق وإلا فستنهار البلاد أمام عمليات تنظيم داعش، وعناصر التنظيم المقدرون بنحو 7 آلاف ينتظرون خروج القوات الأجنبية”.
4- تركيز أمريكي على مواجهة “داعش” بالعراق: يتضح من خلال بيان القيادة المركزية للجيش الأمريكي، في 2 فبراير الجاري، استمرار التركيز على مواجهة مجموعات تنظيم “داعش” في العراق، بنسبة أكبر من العمليات الموازية في سوريا خلال شهر يناير الماضي.
إذ أعلنت القيادة المركزية تنفيذ 33 عملية في العراق من أصل 43 عملية ضد عناصر التنظيم بالعراق وسوريا، بالتعاون مع الأطراف الشريكة في البلدين، مع التأكيد على عدم تنفيذ عمليات بمفردها خلال شهر يناير الماضي.وتهدف العمليات –وفقاً للبيان الأمريكي- إلى إضعاف تنظيم “داعش” وتحييد كبار مقاتليه من ساحة المعركة.
دوافع عديدة
بالنظر إلى طبيعة النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق منذ نهاية عام 2022، ومطلع العام الجاري، فإنّ ثمة عدداً من الدوافع للعملية التي أطلقتها القوات العراقية لملاحقة عناصر التنظيم، وهى:
1- استمرار قدرات التنظيم في النطاق الجغرافي للعملية: منذ مطلع عام 2023، لم تسجل عمليات للتنظيم، وفقاً لبيانات وكالة “أعماق” الموالية لـ”داعش”، في النطاق الجغرافي للعملية العسكرية “سيوف الحق” في مرحلتها الثانية، إذ تركزت العمليات في نطاقات شمال بغداد وكركوك وديالى، وهي المناطق الجغرافية نفسها التي تشهد نشاطاً عملياتياً خلال العام الماضي، في حين لم تسجل عمليات في نينوى، وتم تسجيل عملية واحدة في صلاح الدين، وعملية واحدة في الأنبار.
ولكن التنظيم تعمد إبراز قدراته في نطاق العملية العسكرية الأخيرة، خلال نهاية العام الماضي، وتحديداً خلال ديسمبر الماضي، إذ نفذ التنظيم نحو 5 عمليات في الأنبار، إضافة لعملية واحدة في صلاح الدين، بما يشير إلى رغبة القوات العراقية في تحجيم نفوذ التنظيم بتلك المناطق، خاصة وأنها تتضمن مناطق صحراوية وعرة، يمكن لعناصر التنظيم الاختباء فيها، باتجاه الحدود مع سوريا.
2- مواجهة الارتدادات المحتملة للزلزال بسوريا: تتصل العملية التي أطلقتها القوات العراقية، التي تأتي استكمالاً للمرحلة الأولى، بتوقيت يتعلق بالزلزال الذي شهدته مناطق بشمال سوريا وجنوب تركيا في 6 فبراير الجاري. وربما أقدمت القوات العراقية على إطلاق المرحلة الثانية من العملية العسكرية، لتأمين منطقة الحدود مع سوريا، خلال الفترة الحالية، تحسباً لارتدادات حالة الاضطرابات التي تشهدها سوريا بصورة يمكن أن يستغلها التنظيم في نقل عناصر بين البلدين أو أسلحة أو مواد لوجيستية. إذ إن المرحلة الثانية من العملية العسكرية، وفقاً لبيان وزارة الدفاع العراقية، تستهدف المناطق الصحراوية العراقية باتجاه خط الحدود مع سوريا، لتتبع خلايا التنظيم في تلك المناطق.
3- الضغط على المعاقل التقليدية للتنظيم: تُعد المناطق المستهدفة لتتبع خلايا تنظيم “داعش” في العملية العسكرية معاقل تقليدية للتنظيم، والتي تمثل قاعدة رئيسية له في العراق، وهي المنطقة الجبلية الصحراوية على الحدود مع سوريا. وبالتالي فإن العملية تكتسب أهمية في استمرار الضغط على تلك المعاقل، بموازنة العمليات العسكرية والأمنية الأخرى، في نطاق النشاط العملياتي جغرافياً بمناطق أخرى، وتحديداً شمال بغداد وكركوك وديالى.
كما أن اتجاه التنظيم إلى إعادة هيكلة خلاياه إلى مجموعات أصغر من حيث عدد العناصر، والاتجاه إلى نمط “التمرد الريفي”، في إطار محاولات التكيف مع المتغيرات الميدانية، يُعطي العملية العسكرية أهمية، لملاحقة عدد أكبر من الخلايا والمجموعات في مناطق متفرقة بالنطاق الجغرافي للعملية (الأنبار وصلاح الدين ونينوى).
4- قطع خطوط الإمداد بين مجموعات “داعش”: رغم أن النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” يتركز في نطاق شمال بغداد وكركوك وديالي؛ إلا أن إطلاق العملية العسكرية خارج هذا النطاق الجغرافي للنشاط العملياتي لـ”داعش”، يعكس رغبة من قبل القوات العراقية في محاولة قطع خطوط الإمداد من الأنبار ونينوى وصلاح الدين باتجاه مناطق النشاط العملياتي، أو على الأقل عرقلة خطوط الإمداد اللوجيستية.
إذ يؤكد تقرير لجنة تابعة لمجلس الأمن لتحليل النشاط الإرهابي، خلال شهر فبراير الجاري، أن التنظيم يعتمد على محافظتي الأنبار ونينوى كنقطة تمركز لوجيستية رئيسية في العراق.
كما أن توقيت إطلاق العملية العسكرية يهدف إلى إحكام السيطرة على المناطق الرخوة والهشة بين حدود المحافظات، لدعم جهود العمليات في مناطق النشاط العملياتي، ومنع انتقال العناصر بين النطاقين، لممارسة ضغوط أقوى على مجموعات التنظيم في شمال بغداد وكركوك وديالى.
عزل المجموعات
أخيراً، فإن العملية العسكرية التي أطلقتها القوات العراقية باتجاه مناطق النفوذ التقليدية واللوجيستية الرئيسية لتنظيم “داعش” في العراق، تهدف بشكل رئيسي إلى محاولة عزل مجموعاته عن بعضها بعضاً خلال الفترة الحالية، واستمرار الضغط على خلايا التنظيم بعد الاعتماد على نمط “التمرد الريفي”، الذي يهدف إلى مقاومة الضغوط من أجل البقاء. كما أن العملية العسكرية تسعى إلى تتبع خلايا ومجموعات التنظيم لتفكيكها، واحتواء التهديدات واستمرار الضغوط على “داعش”.