يعكس استمرار إمدادات الطاقة الإيرانية إلى العراق حرص إيران على الاستعداد مسبقاً لاحتمال فشل مفاوضات فيينا النووية، ومحاولاتها زيادة مواردها من النقد الأجنبي في إطار السياسة الحالية التي تتبناها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي والقائمة على رفع مستوى العلاقات الثنائية مع دول الجوار، والاستعاضة من خلالها عن تطوير العلاقات مع الدول الغربية تحديداً. كما يشير ذلك إلى حرص العراق على استباق نشوب أزمة جديدة في نقص الكهرباء خلال فصول الصيف على نحو ما جرى في الفترة الماضية.
ما زالت إيران حريصة على استمرار التعاون مع العراق في مجال الطاقة، حيث أكد وزير النفط جواد اوجي، في 17 يونيو الجاري، على أن “قائد الثورة الإسلامية ورئيس الجمهورية يؤكدان على ديمومة صادرات الغاز للعراق”، مضيفاً: “لن نسمح بأن يقلق الشعب العراقي بشأن إمدادات الغاز”. وقد جاء ذلك عقب إعلان الوزير عن حصول إيران على 1.6 مليار دولار مستحقات مالية متأخرة من العراق بشأن صادرات الطاقة.
اعتبارات عديدة
يمكن تفسير حرص الطرفين على استمرار التعاون في هذا المجال تحديداً في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- محاولة تقليص حدة الضغوط المفروضة على إيران: واجهت إيران ضغوطاً قوية بسبب إمعانها في استغلال إمدادات الطاقة إلى العراق كورقة ضغط حاولت استخدامها كآلية لتعزيز نفوذها داخل الأخيرة خلال المرحلة الماضية، على نحو أثار استياءاً شعبياً واضحاً، بدا جلياً في الاحتجاجات التي شهدتها العراق في بداية أكتوبر 2019، والتي رفعت شعارات مناهضة لإيران واستُهدِفت خلالها القنصلية الإيرانية في النجف. ومن هنا، يمكن تفسير حرص وزير النفط الإيراني جواد اوجي على تأكيد أن إيران لن تقطع إمدادات الغاز عن العراق بل إنها تعتزم زيادتها.
2- تعزيز الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة: تبذل حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي جهوداً حثيثة من أجل تعزيز الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران بسبب العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الحالية، والتي أدت إلى تراجع عوائد تصدير النفط ووضع عقبات أمام حصول إيران على أموالها المجمدة في الخارج، إلى جانب استبعادها من منظومة التعاملات المصرفية الدولية. ومن هنا، يمكن تفسير حرص إيران على مطالبة الدول الأخرى، بل وممارسة ضغوط عليها في بعض الأحيان، على غرار كوريا الجنوبية، للحصول على مستحقاتها المالية لديها.
3- توجيه مزيد من الانتقادات إلى حكومة روحاني: تحاول حكومة رئيسي تحديداً توجيه رسالة إلى الداخل الإيراني مفادها أنها نجحت إلى حد كبير فيما فشلت فيه حكومة الرئيس السابق حسن روحاني، خاصة أن المستحقات المالية التي تسلمتها مؤخراً من العراق، كانت مستحقات متأخرة خلال فترة الحكومة السابقة. ولا ينفصل ذلك، من دون شك، عن محاولات الحكومة الحالية تبرير جزء من إخفاقاتها الاقتصادية من خلال إلقاء المسئولية على الحكومة السابقة، حيث أن وسائل الإعلام المقربة منها تسعى في الوقت الحالي إلى الترويج إلى أن تفاقم الأزمة الاقتصادية يعود إلى السياسات التي سبق أن تبنتها الحكومة السابقة، والتي تحاول الحكومة الحالية احتواء تداعياتها عبر آليات عديدة. وقد أشار وزير النفط جواد اوجي في هذا السياق إلى أنه “منذ بداية العام الحالي (بدأ في 21 مارس الماضي) مقارنة مع الفترة المماثلة من العام الماضي، ازداد حجم صادرات البلاد من الغاز بنسبة 25%، كما ازداد تسلم عوائد العملة الصعبة المستحصلة منها بنسبة 90%”.
4- الاستعداد لاحتمال فشل المفاوضات النووية: يمثل حرص إيران على مواصلة التعاون مع العراق في مجال إمدادات الطاقة، مؤشراً يكشف عن أنها تحاول الاستعداد مبكراً لاحتمال فشل مفاوضات فيينا التي توقفت في 11 مارس الماضي، بسبب الخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول مطلب الأولى الخاص بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية. ويعني ذلك في المقام الأول أن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران قد تستمر وربما تتصاعد حدتها في المرحلة القادمة، بالتوازي مع استمرار عدم تعافي إيران بشكل كامل من تداعيات انتشار فيروس كوفيد-19، فضلاً عن استمرار تأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير الماضي.
ومن هنا، يمكن القول إن تعزيز التعاون مع العراق في هذا المجال تحديداً يمثل إحدى الآليات التي تستخدمها إيران في الوقت الحالي للاستعداد مسبقاً لفشل المفاوضات، حيث تسعى في الوقت الحالي إلى رفع مستوى العلاقات الثنائية مع دول الجوار، سواء بعض دول مجلس التعاون الخليجي على غرار قطر وسلطنة عمان، أو دول آسيا الوسطى والقوقاز، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها الرئيس الكازاخستاني قاسم جومرت توكاييف إلى إيران، في 19 يونيو الجاري، والتي شهدت توقيع الدولتين على 9 مذكرات تعاون، بالتوازي مع بدأ العبور الفعلي لخط الشحن السككي من كازاخستان إلى أوروبا عبر تركيا وإيران.
5- تجنب التعرض لأزمة كهرباء في الصيف: سعت العراق عبر سداد المستحقات المالية المتأخرة إلى تجنب التعرض لأزمة نقص الكهرباء في فصل الصيف، على نحو ما جرى في الأعوام الماضية. ومن هنا، كان سداد المستحقات المالية جزءاً من الاتفاق الذي أبرم بين العراق وإيران، في 12 مايو الفائت، حيث أعلن وزير الكهرباء العراقي عادل كريم التوصل إلى اتفاق مع إيران لتسديد المستحقات المالية اعتباراً من أول يونيو الحالي لضمان تدفق الغاز لتوليد الطاقة الكهربائية خلال الصيف. وقد أشار الوزير العراقي إلى أنه تم الاتفاق أيضاً مع إيران على تزويد العراق بـ50 مليون متر مكعب يومياً من الغاز خلال الشهور الأربعة في فصل الصيف. وقد بدت أهمية الاستعداد مسبقاً لتجنب أية مشكلات تتعلق بإمدادات الطاقة من إيران جلية في حرص العراق، التي لم تقر ميزانية عام 2022 بعد، على اعتماد قانون تمويل الطوارئ لسداد المتأخرات التي طالبت بها إيران.
ورقة ضغط
رغم حرص وزير النفط الإيراني على تأكيد أن استمرار إمدادات الطاقة الإيرانية إلى العراق يحظى باهتمام خاص من جانب القيادة العليا في طهران، ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، إلا أن ذلك لا يعني أن السياسة الإيرانية في هذا السياق تتسم بالاستقرار، إذ سرعان ما يمكن أن تجري إيران تغييرات فيها، وهو ما سوف يرتبط في المقام الأول بعاملين:
أولهما، مدى ما يمكن أن تفرضه الأزمة السياسية العراقية من ضغوط إضافية على إيران، بعد فشل الأخيرة في استغلال نفوذها لتشكيل حكومة تضم القوى الموالية لها. ورغم أن استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان يمكن أن توفر فرصة لهذه القوى من أجل تحقيق هذا الهدف، فإن ذلك يبقى تحدياً لا يبدو هيناً، خاصة أن الأزمات الداخلية التي ستواجهها هذه الحكومة ليست ثانوية ولا يمكن احتواءها بسهولة، على نحو يمكن أن يخصم من نفوذها وبالتالي يؤثر بالسلب على الحضور الإيراني.
وثانيهما، المسارات المحتملة للمفاوضات النووية في فيينا، حيث أن الوصول إلى صفقة تعزز من استمرار العمل بالاتفاق النووي يمكن أن يزيد من احتمال استمرار هذا التعاون، خاصة أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية سوف تُرفع في هذه الحالة، في حين أن فشل المفاوضات وعودة أزمة الملف النووي الإيراني إلى مربعها الأول ربما يضع عقبات جديدة، وبالتالي يفرض حدوداً للتعاون بين الطرفين في هذا المجال.