أكثر ما تناولته الأقلام العربية في الأسابيع الأخيرة، كان محاولة استكشاف ما هي العلاقة المستقبلية بين دول الخليج والولايات المتحدة في ضوء إعلان القمة العربية\ الخليجية بعد أقل من ثلاثة أسابيع من اليوم. والجميع محق في محاولة الاستكشاف، لأننا على مفترق طرق بين المنهج القديم الذي استمر لعقود وما يجب أن يكون في المستقبل. لا جدال في أن ما أطلق تلك الدينامية الجديدة هو حرب روسيا على أوكرانيا، وهي حرب سوف تؤثر في شكل العلاقات الدولية، ومنها علاقات الدول الكبرى بمنطقتنا العربية عامةً والخليجية على وجه التحديد.
رغم أن الولايات المتحدة تكثر فيها مؤسسات الدراسات والبحث، وبخاصة علاقتها بالعالم، بما فيها عدد وازن من مراكز البحث حول دول الخليج، وكثير من الدراسات تتعرف بدقة إلى المشكلات العالقة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، إلا أن معظم السياسات لا تأخذ بها الإدارات المختلفة، وعلى الأقل الإدارات الأربع الأخيرة (منذ بوش الثاني إلى جو بايدن). التفسير أن الإدارات الأميركية تخضع أكثر وأكثر لضغوط الرأي العام (السياسي)، وهو رأي عام إما غير ملم أو يحمل تشوّهات في ذاكرته الجمعية تجاه دول الخليج، وأيضاً بقية الدول العربية، وتبرر تلك السياسات بشعارات ذات أبعاد إنسانية تسميها (القيم الكبرى) وبعضها يُنتهك في داخلها!
الحرب الروسية الأوكرانية قلبت الأمور رأساً على عقب، فبعد مرحلة من الاسترضاء لروسيا عندما بدأت تتمدد، بدءاً من عام 2008 (في جورجيا) ثم بعد ذلك في شبه جزيرة القرم 2014 ومن ثم سوريا 2015 وأخيراً أوكرانيا، كل تلك الفترة كان الغرب يقدم التنازلات حتى عندما امتدت شهية الدب الروسي إلى أبعد من الجوار كسوريا مثلاً، بل طوال فترة العقد الأخير من القرن الماضي والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، اعتمد الغرب على المواد الأولية التي يحتاجها من روسيا، وتراكمت ثروة ضخمة للروس من تلك العلاقات الاقتصادية، كان الرأي وقتها أن ربط العلاقات الاقتصادية يسهل دخول روسيا إلى النظام الرأسمالي العالمي، وإن شاب بعض تصرفاتها بعض المنقصات، بخاصة تجاه حقوق الإنسان وسياسة اليد الثقيلة ضد المعارضين في الداخل وحتى في الخارج.
بعد شباط (فبراير) من العام الجاري، والاجتياح الروسي لأوكرانيا، تبدل الموقف تماماً، وبدأت سياسات جديدة من القوى الكبرى تجاه علاقتها بالآخرين، وبعد (جفاء) وانصراف عن الشرق الأوسط، تبين أن سياسات غربية ضد روسيا وحتى الصين تمر جبراً بمنطقة الشرق الأوسط، وبخاصة بدول الخليج.
الولايات المتحدة ودول الغرب الصناعي (بما فيها أستراليا واليابان)، قررت أن المعركة في أوكرانيا معركة (كسر عظم)، أولاً لردع روسيا عن التمدد إلى الخارج، وثانياً الإشارة إلى الصين بأن أي سياسات عدائية ضد دول جارة (بما فيها تايوان) سوف تواجه بردع قوي قد يصل إلى العسكري، قوي ذلك الاتجاه بعدما قدم الأوكرانيون الكثير من البسالة التي لم تكن في حساب لا الروس ولا الغرب. الروس اعتقدوا أنها مجرد عملية عسكرية سوف تسقط النظام الأوكراني في أسابيع وتقيم نظاماً تابعاً لها، كما أن الغرب أخرج كل دبلوماسييه بمجرد اندلاع الحرب، ظناً منه أن المعركة قصيرة.
وفرت مقاومة الأوكرانيين الفرصة للغرب للثأر، إن صح التعبير، من عدم فهم موسكو سكوته، فقرر إعانة الأوكرانيين بعد كل يوم وأسبوع ثبات أمام الآلة العسكرية الروسية.
إلا أن الأمر لم ينته هناك، فقد أصاب العالم جوعان: الأول للطاقة والثاني للغذاء، وتفاقمت المشكلات الحياتية في الدول الغربية، حل أو تحفيف تلك المشكلات في أسعار طاقة (معقولة) ولا تستطيع أن تقدم ذلك الحل إلا دول عربية منتجة للطاقة، وعلى رأسها دول الخليج الغنية بهذه المادة.
من هنا جاءت الانعطافة الغربية، وبخاصة الأميركية تجاه المنطقة بعد شيء من التجاهل لمشكلاته ليس قليلاً.
من هنا، فإن الأمر يحتاج إلى الكثير من الصراحة مع الغرب وأميركا، إذ وقفت دول الخليج في مراحل صعبة مع الغرب، لكن عندما تنتهي تلك المراحل تقدم فلسفات مختلفة لتبرير الانصراف عن المشهد، بل وفي بعض الأوقات التحريض ضد الصديق القديم!!
الاصطفاف العالمي المقبل يحتاج أولاً الوضوح وثانياً الدقة في التعابير المكتوبة، وأيضاً عزماً صادقاً على التعاون للحفاظ على علاقات متوازنة، منها جاءت المشاورات المكثفة في شرم الشيخ وعمان وحتى أنقره من أجل تحضير المواقف وبلورتها تمهيداً للقاء القمة المقبل في جدة (المملكة العربية السعودية).
المنطقة لم تعد كما كانت في سبعينات القرن الماضي ولا حتى تسعيناته، لقد جرت مياه كثيرة تحت سطح الحوادث، القيادات تغيرت والشعوب أصبحت لها طموحات مختلفة وهي الاستقرار والنمو، من دون منقصات، ومعروف من أين تأتي مجمل المنقصات للإقليم اليوم، وكما كان استرضاء الغرب لروسيا حتى هذا العام، ما شجعها على استمرار سياسة التوسع في الجوار وما خلف الجوار، فإن السكوت عن توسع إيران يشجعها على التمادي وقضم الأراضي العربية تحت شعارات مختلفة لا تتميز كثيراً عن شعارات بوتين، الأخير تحت ذريعة العرق وهي تحت ذريعة المذهب أو (حرب الشيطان الأكبر)!!
إن لم توضع تلك الملفات أمام الضيف الأميركي بكل ذلك الوضوح وسماع رأي يعززه فعل حول المخاوف المشتركة وكيفية التصدي لها، فإن أي تعاون سيكون مغلفاً بعبارات دبلوماسية في الغالب فارغة من المعاني!
نقلا عن النهار العربي