تصاعدت حدة الخلافات مجدداً بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا حول العملية العسكرية التي تهدد الأخيرة بشنها في شمال شرق سوريا بهدف توسيع الحزام الأمني في تلك المنطقة، على نحو لا يمكن فصله عن متغيرات عديدة يتمثل أبرزها في تلميح مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لرفع مستوى التعاون العسكري مع النظام السوري، وممارسة واشنطن ضغوط على أنقرة لتغيير موقفها من ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ومعارضة السياسة التقليدية التركية القائمة على استغلال ذلك من أجل وقف الدعم الغربي للأكراد.
جددت الولايات المتحدة الأمريكية رفضها للعملية العسكرية التي تهدد تركيا بشنها في شمال شرق سوريا، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، في 7 يونيو الجاري: “لقد أكدنا أننا ما زلنا نشعر بقلق عميق بشأن المناقشات حول النشاط العسكري المتزايد والمحتمل في شمال سوريا، ولا سيما تأثيره المحتمل على السكان المدنيين هناك”، مضيفاً: “لقد واصلنا دعوتنا إلى الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار القائمة. وندين أي تصعيد يتجاوز هذه الخطوط”.
أهداف عديدة
ترى واشنطن أن أنقرة تسعى عبر التهديد بشن عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- وقف الدعم الغربي للأكراد: تحاول تركيا استغلال التهديد بشن العملية الجديدة-بالتوازي مع رفضها ضم السويد وفنلندا إلى حلف الناتو- من أجل ممارسة ضغوط أقوى على الدول الغربية لتقليص الدعم الذي تقدمه للمليشيا الكردية في سوريا، في ظل الدور الذي تقوم به تلك المليشيا سواء في الحرب ضد تنظيم “داعش” أو في الإشراف على المخيمات التي تضم عناصر التنظيم المحتجزين وبعض عائلاتهم. وفي رؤية الدول الغربية، فإن هذا الدور لا يمكن الاستعاضة عنه بسهولة، لا سيما أن هذه المخيمات تخفف حدة أزمة غياب خيارات التعامل مع المحتجزين وعائلاتهم، بعد أن رفضت دول عديدة استقبال مواطنيها الذين انضموا للتنظيم الإرهابي في الفترة الماضية. إلا أن تركيا ترى أن هذه المليشيا إرهابية وتقوم بدعم حزب العمال الكردستاني على نحو يفرض تهديدات لأمنها واستقرارها.
وقد كان لافتاً في هذا السياق، أنه بدأت تظهر مؤشرات جديدة تكشف عن احتمال حدوث تحول في مواقف الدول الغربية إزاء دعمها للمليشيا الكردية، حيث تعددت تصريحات المسئولين الغربيين التي تشير إلى “تفهمهم” لمخاوف تركيا الأمنية. فقد قال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج، خلال لقاء مع الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو، في ١٢ يونيو الجاري، أن “تركيا لديها “مخاوف مشروعة بشأن الإرهاب، ولا سيما بشأن حزب العمال الكردستاني، والقضايا الأخرى التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد”. وفي اليوم التالي، ذكر خلال لقائه مع رئيسة الوزراء السويدية ماجدالينا أندرسون، أن استكهولم اتخذت خطوات مهمة لتلبية مطالب أنقرة للموافقة على طلب الأولى للانضمام إلى الحلف، حيث غيرت تشريعاتها الخاصة بمكافحة الإرهاب.
2- رفع الحظر المفروض على أنقرة: ربما لا ينفصل ذلك عن حرص أنقرة على تبني سياسة “المقايضة” التي تقوم في الأساس على الربط بين مستوى التقدم في تنفيذ العملية العسكرية الجديدة وتغير المواقف الغربية إزاء الحظر المفروض على تقديم أسلحة إليها، حيث فرضت الدول الأوروبية حظراً على الأسلحة إلى تركيا، في أكتوبر 2019، على خلفية عمليتها العسكرية في شمال شرق سوريا. وتشير تقارير عديدة إلى أن أنقرة تمارس ضغوطاً على الإدارة الأمريكية لرفع الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية عليها لحصولها على منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-٤٠٠)، حيث تم إخراج أنقرة من برنامج الطائرات الأمريكية المقاتلة (إف -٣٥). وفي المقابل تطالب تركيا بتطوير أسطولها من المقاتلة الأمريكية (إف-١٦) والحصول على ٤٠ مقاتلة من أحدث نسخها. وقد سبق أن طلبت الإدارة الأمريكية، في 11 مايو الفائت، موافقة الكونجرس على بيع طائرات (إف-١٦) وأسلحة ومعدات ثقيلة إلى تركيا لتحسين قدراتها العسكرية. وقد ذكرت وزارة الخارجية في خطاب لها للكونجرس، في 6 أبريل الماضي، لحثه على الموافقة على الصفقة، أنها تخدم الأمن القومي الأمريكي والمصالح التجارية والاقتصادية المشتركة، وكذلك وحدة حلف الناتو وخططه على المدى الطويل.
3- السيطرة على مزيدٍ من الأراضي السورية: سيطرت تركيا خلال عملياتها العسكرية السابقة في شمال سوريا على أجزاء من الأراضي السورية، لكنها تهدف من العملية العسكرية الجديدة إلى توسيع نطاق هذه السيطرة، ولا سيما في المناطق التي يستخدمها المقاتلون الأكراد لمهاجمة المناطق التي يُسيطر عليها مقاتلو المعارضة السورية المدعومون من جانبها. وقد كشفت تقارير عديدة عن احتمال دخول القوات التركية بلدة كوباني الحدودية الاستراتيجية، والتي تحمل رمزية قوية للأكراد السوريين وطموحاتهم في الحكم الذاتي في هذا الجزء من سوريا.
4- موازنة التمدد الإيراني داخل سوريا: مع أن تركيا كانت حريصة على التوصل إلى تفاهمات مستمرة مع إيران وروسيا حول الترتيبات الأمنية والسياسية التي جرى العمل على صياغتها داخل سوريا خلال الفترة الماضية، إلا أنها تبدي في الوقت الحالي قلقاً إزاء التحركات التي تقوم بها إيران لاستغلال أى فراغ محتمل ينتج عن سحب قوات روسية أو موالية لموسكو للمشاركة في الحرب الأوكرانية من أجل تعزيز تمددها في الداخل السوري، على نحو دفعها إلى التهديد بشن تلك العملية من أجل توجيه رسالة مباشرة بأنها طرف لا يمكن تجاهله في التحركات الجديدة التي تشهدها الساحة السورية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 24 فبراير الماضي.
تحذيرات مسبقة
رغم اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بمخاوف تركيا الأمنية، فإنها حذرت من أن عملية عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا يمكن أن تضر بالسكان المدنيين وتعرض القوات الأمريكية للخطر، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في بداية يونيو الجاري، أن العملية ستقوض الاستقرار الإقليمي، إذ ستوفر للأطراف “الفاعلة الخبيثة” إمكانية استغلالها لتعزيز عدم الاستقرار. ولذلك حض أنقرة على الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في ١٧ أكتوبر ٢٠١٩.
وترفض الولايات المتحدة الأمريكية العملية العسكرية التركية لسبب رئيسي يتمثل في مخاوفها من أن تقوض الجهود الأمريكية لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي. فقد أكدت دانا سترول نائبة مساعد وزير الدفاع لشئون الشرق الأوسط، خلال جلسة استماع بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بعنوان “الطريق إلى الأمام بشأن السياسة الأمريكية السورية: الاستراتيجية والمساءلة”، في ٨ يونيو الجاري، على أن “غزواً تركياً واسع النطاق لشمال سوريا سيزيد من إجهاد قوات سوريا الديمقراطية التي تعاني بالفعل من نقص الموارد، فضلاً عن أنه يعرض أمن مراكز الاحتجاز التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية وتضم مقاتلي داعش للخطر”. وقد حذرت من أن القوات الكردية ستضطر إلى وقف عملياتها ضد تنظيم “داعش” وبدء معركة عسكرية ضد الغزو التركي.
كما أن واشنطن تتوقع أن يسعى النظام السوري إلى استغلال هذا التصعيد من أجل تعزيز موقعه في الداخل، خاصة بعد أن بدأت مليشيا “قسد” في توجيه رسائل مباشرة بأن هذه العملية الجديدة يمكن أن تدفعها إلى رفع مستوى التعاون العسكري مع النظام، حيث قال قائد المليشيا مظلوم عبدي، في 7 يونيو الجاري، أن “على قوات النظام في سوريا استخدام أنظمة الدفاع الجوي ضد الطائرات التركية”.
حدود محتملة
مع ذلك، فإن إقدام تركيا على اتخاذ خطوات إجرائية لتنفيذ تهديداتها قد لا يواجه بعقوبات أكثر قوة من جانب الدول الغربية، في ظل حاجة الأخيرة إلى موافقة أنقرة على توسيع حلف الناتو في أعقاب التهديد الروسي للأمن الأوروبي لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، عبر انضمام السويد وفنلندا، وهو ما يوحي في النهاية بأن التطورات التي تشهدها العديد من الملفات البارزة على الساحة الدولية بدأت تفرضها انعكاسات مباشرة على الترتيبات الأمنية التي تجري على الساحة السورية.