مع تصاعد حدة الأزمة بين روسيا وأوكرانيا حتى قبل أن تقوم الأولى بشن عملياتها العسكرية ضد الثانية بداية من 24 فبراير الفائت، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن وعدد من مسئولي الإدارة الأمريكية، أكثر من مرة، عدم إرسال قوات أمريكية للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية ضد الهجمات العسكرية الروسية. بل إن الإدارة الأمريكية قامت بسحب القوات العسكرية الأمريكية التي كان يعمل أفرادها في كييف كمستشارين ومراقبين عسكريين، بالتوازي مع الإشارة إلى أنها لن تقوم بإرسال قوات أمريكية لإجلاء الأمريكيين العالقين في أوكرانيا.
دوافع عديدة
على عكس العديد من الحالات التي اضطرت فيها الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرسال قوات أمريكية لحماية بعض الدول من التهديدات الأمنية التي توجهها الدول المجاورة لها، فإن إدارة الرئيس جو بايدن حرصت على عدم إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا، رغم التهديدات التي تتعرض لها من جانب روسيا، والتي امتدت لتمسّ أمن ومصالح الدول الأوروبية الأخرى. ويمكن تفسير ذلك في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:
١- تراجع أهمية أوكرانيا للأمن القومي الأمريكي: قد يُفسر عدم حماسة الإدارة الأمريكية لإرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا، بأن العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية لا تمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي؛ حيث تبعد أوكرانيا عن حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وليست هناك مصالح استراتيجية حيوية للأخيرة على الأراضي الأوكرانية تبرر قرار إرسال قوات أمريكية للقتال ضد القوات الروسية بجانب القوات الأوكرانية، فضلاً عن أن كييف لا تستضيف قواعد عسكرية أمريكية، وليست لديها احتياطيات استراتيجية من النفط، إلى جانب أنها ليست شريكاً تجارياً رئيسياً لواشنطن.
٢- غياب الالتزامات الأمنية تجاه كييف: لا ترتبط الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا بمعاهدة أمنية سواء ثنائية أو متعددة الأطراف تفرض على الأولى الدفاع عسكرياً عن الثانية في حال تعرضها لهجوم عسكري من دولة جوار، فكييف ليست عضواً في حلف الناتو، ومن ثم لا تنطبق عليها المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تنص على أن الهجوم على أي من أعضائه يُعتبر هجوماً على باقي الأعضاء.
٣- سلبيات نتائج التجارب العسكرية السابقة: رغم أن الرئيس بايدن سبق أن أعلن تأييده للعديد من التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، على غرار ما حدث في البلقان والعراق؛ إلا أن فشل الولايات المتحدة الأمريكية في إحداث تحولات وتحقيق أهدافها في بعض تلك الدول، دفعه إلى إبداء مواقف أكثر حذراً في استخدام القوة العسكرية الأمريكية في الخارج.
وخلال شغله منصب نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما، عارض بايدن التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا، وزيادة القوات الأمريكية في أفغانستان. ورغم معارضة كبار القادة العسكريين قرار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وفقاً للاتفاق الذي وقعته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة “طالبان”، وكذلك الحلفاء الأوروبيين، فضلاً عن التحذيرات المتعددة من أن الانسحاب قد يصاحبه فوضى وكارثة إنسانية، وإعادة سيطرة “طالبان” على البلاد، وتبديد المكاسب التي حققتها واشنطن والتكلفة المالية والبشرية الباهظة التي تكبدتها؛ إلا أنه صمم على قراره بالانسحاب العسكري قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالفعل انسحب آخر جندي أمريكي من أفغانستان في ٣١ أغسطس الماضي لإنهاء عقدين من حرب أمريكية ضد تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” في أفغانستان.
٤- التوجهات الداخلية المناوئة للتدخلات الخارجية: كشفت بعض استطلاعات الرأي التي أُجريت في الفترة السابقة عن رفض غالبية الأمريكيين خيار إرسال الولايات المتحدة الأمريكية قواتها العسكرية للدفاع عن أوكرانيا قبل العمليات العسكرية الروسية ضد الأخيرة وبعدها، حيث فضلوا عدم الانخراط في الصراع. فقد أظهرت نتائج استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك خلال الفترة من ١٠-١٤ فبراير الفائت أن ٥٧٪ من الأمريكيين المستطلعة آراؤهم يقولون إنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية ألا ترسل قوات إلى أوكرانيا إذا قامت روسيا بغزوها. وفي استطلاع أجراه إيبسوس ووكالة رويترز خلال الفترة من ٣-٤ مارس الجاري، فإن ٦١٪ من الأمريكيين المستطلعة آراؤهم عارضوا خوض واشنطن حرباً ضد موسكو في أوكرانيا. كما عارض ٧١٪ في الاستطلاع الذي أجرته يوجوف وشبكة سي بي إس الإخبارية خلال الفترة ٢٤-٢٨ فبراير الفائت إرسال قوات أمريكية للدفاع عن أوكرانيا.
٥- تجنب التورط في حرب مع روسيا: وجه المشرّعون الجمهوريون انتقادات للإدارة الأمريكية بسبب ما وصفوه بـ”إخفاقات” التعامل مع الأزمة الأوكرانية في أعقاب العمليات العسكرية الروسية؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن صقور الحزب الجمهوري، فضلاً عن بعض المشرّعين الديمقراطيين، أبدوا تخوفهم من تورط الولايات المتحدة الأمريكية في حرب ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية، لذلك يعارضون إرسال قوات أمريكية إلى كييف. ومن هنا أيّد المشرّعون من كلا الحزبين قرار الرئيس بايدن بعدم إرسال قوات أمريكية إلى الأراضي الأوكرانية، أو فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا.
وبالفعل، بررت الإدارة الأمريكية، أكثر من مرة، معارضتها لإرسال قوات أمريكية لأوكرانيا قبل العمليات العسكرية الروسية وبعدها، بأنها لا ترغب في اشتباك قواتها مباشرة مع القوات الروسية، وهو الأمر الذي ينذر باشتعال حرب عالمية ثالثة. وفي أعقاب بداية العمليات العسكرية الروسية، قال الرئيس بايدن في خطاب له في ٢٤ فبراير الفائت: “قواتنا لن تشارك في الصراع مع روسيا في أوكرانيا”، مشدداً أمام تجمع من الديمقراطيين في مجلس النواب على “عدم خوض حرب عالمية ثالثة في أوكرانيا”.
وبدوره، أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن، خلال لقاء تليفزيوني في ٦ مارس الجاري، أن الرئيس بايدن يتحمل مسئولية عدم دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى صراع مباشر أو حرب مباشرة مع روسيا والمخاطرة بحرب تمتد خارج أوكرانيا إلى أوروبا، حيث تركز الإدارة على إنهاء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وليس بدء حرب أكبر. ويزيد امتلاك موسكو ترسانة نووية من المخاوف الأمريكية من التدخل العسكري المباشر في أوكرانيا.
استقرار المبدأ
رغم أن الرئيس بايدن يتعرض لضغوط داخلية وخارجية، لبذل المزيد من الجهود من أجل حماية أوكرانيا والمدنيين الأوكرانيين من الضربات العسكرية الروسية المستمرة حتى الآن؛ إلا أنه لن يغامر بإرسال قوات أمريكية إلى الأراضي الأوكرانية، أو فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، لتجنب الاشتباك في حرب مباشرة مع روسيا، حيث ستواصل الإدارة الأمريكية، في مقابل ذلك، قيادة المعسكر الغربي من أجل تحويل روسيا إلى دولة منبوذة عالمياً، وتقديم المساعدات الإنسانية والعسكرية لأوكرانيا، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية الأمريكية مع كييف.