تتمثل الأسباب الأساسية التي يمكن من خلالها تفسير تجدد الجدل حول العلاقة بين إيران وجبهة البوليساريو، في استعداد إيران لمرحلة جديدة من التصعيد مع إسرائيل بعد حرب غزة، والرد على الاستثناء المغربي الخاص بعدم تحسين العلاقات الثنائية، والجهود المغربية لمحاصرة النفوذ الإيراني في غرب أفريقيا، ومحاولات الرباط التواجد في “الحديقة الخلفية” لطهران.
لا تُعبّر العلاقة التي تربط إيران وجبهة البوليساريو عن توجّه جديد تتبناه إيران لتعزيز حضورها في منطقة شمال أفريقيا، فقد كانت هذه العلاقة سبباً رئيساً في اتجاه المغرب إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في عام 2018. لكن الجديد في الأمر هو أن هذه العلاقة لم تعد تقتصر على مجرد تنظيم دورات تدريبية لعناصر الجبهة في منطقة تندوب بواسطة حزب الله (الوكيل الرئيس لإيران على مستوى المنطقة)، وإنما باتت تمتد إلى نقل أسلحة إلى الجبهة لمساعدتها على مواصلة المواجهة مع المغرب، حسب الاتهامات التي يوجهها المسؤولون المغاربة لطهران وتنفيها الجبهة بصفة مستمرة.
في هذا السياق، نشرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية مقالاً، في 8 نوفمبر الجاري، نقلت عنه وسائل إعلامية مغربية وفارسية، وجاء فيه أن إيران انخرطت في محادثات مع الجبهة من أجل تعزيز العلاقات الثنائية، ودفع الجبهة إلى استهداف المصالح الإسرائيلية في المغرب، ولا سيما مقر البعثة الدبلوماسية في الرباط.
تفسيرات متعددة
يمكن القول، بصرف النظر عمّا إذا كان ما جاء في هذا المقال يحظى بمصداقية من عدمه، أن العلاقة بين إيران وجبهة البوليساريو باتت تكتسب أهمية وزخماً خاصاً في المرحلة الحالية، سواء بسبب استعداد إيران لمرحلة ما بعد انتهاء حرب غزة، أو بسبب التطورات الجديدة التي طرأت على صعيد العلاقات بين إيران والعديد من الدول العربية في الشهور الأخيرة. ويمكن تناول ذلك على النحو التالي:
1- تزايد احتمالات اتساع نطاق المواجهة: رغم أن إيران نفت مراراً ضلوعها في تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها كتائب القسام (الذراع العسكرية التابعة لحركة حماس)، في 7 أكتوبر الفائت، وكانت سبباً في اندلاع الحرب الحالية، ورغم أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حرصتا على التماهي مع هذا النفى الإيراني، حيث لم توجه اتهامات مباشرة وواضحة لإيران في هذا الصدد؛ إلا أنّ الأخيرة تتوقع أن تسعى إسرائيل، بعد انتهاء الحرب في غزة، إلى الرد على الدعم الذي تقدمه إيران للفصائل الفلسطينية والمليشيات الشيعية الأخرى التي باتت تستهدف مصالح إسرائيلية مباشرة، على غرار حزب الله في لبنان، وحركة الحوثيين في اليمن.
هذا الرد الإسرائيلي المتوقّع من جانب إيران قد لا يقتصر على استهداف الحضور العسكري الإيراني في الإقليم، على غرار ما يحدث في سوريا حيث تواصل إسرائيل توجيه ضربات قوية للمواقع التابعة لإيران والمليشيات الموالية لها، وإنما سيمتد -في الغالب- إلى داخل إيران نفسها، وربما بمستوى أعلى من ذي قبل، حيث يتوقع أن ترفع إسرائيل من وتيرة استهدافها للمنشآت النووية الإيرانية، وقد تبدأ في مواصلة عمليات تصفية علماء نوويين أو قادة عسكريين بارزين.
من هنا فإن إيران تسعى إلى الاستعداد مبكراً لهذا الاحتمال، عبر توسيع شبكة نفوذها وتحالفاتها لتشمل أطرافاً جديدة قد يكون من المهم -بالنسبة لإيران- الاستعانة بهم في إدارة الصراع مع إسرائيل خلال المرحلة القادمة.
وربما يمكن القول إن جبهة البوليساريو تقدم هذه الفرصة لإيران في هذا التوقيت تحديداً في ظل المواجهة المستمرة التي ينخرط فيها مع المغرب، والتي وصلت إلى مرحلة القيام بعمليات تفجير، على غرار التفجيرات الأربعة التي استهدفت مدينة السمارة بالصحراء المغربية في 29 أكتوبر الفائت وأسفرت عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة آخرين، وهي التفجيرات التي أشارت السلطات المغربية إلى أن البوليساريو مسؤولة عنها. ومن هنا، تأتي أهمية التكهنات التي تُشير إلى إمكانية استخدام إيران لجبهة البوليساريو في استهداف المصالح الإسرائيلية في المغرب.
2- الرد على “الاستثناء المغربي” في الانفتاح العربي على طهران: تمكنت إيران من تحسين العلاقات مع العديد من الدول العربية التي سبق أن قطعت أو خفضت مستوى التمثيل الدبلوماسي معها في الأعوام الأخيرة، ولا سيما منذ قيام السعودية بقطع العلاقات الدبلوماسية معها في يناير 2016. ففضلاً عن توقيع اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في 10 مارس الماضي، فقد تحسنت العلاقات بين إيران وكل من السودان وجيبوتي والكويت، وهي الدول التي اتخذت قرارات مؤيدة للسياسة السعودية بعد الاعتداء على السفارة والقنصلية السعودية في طهران ومشهد في يناير 2016 على خلفية قيام السلطات السعودية بإعدام القيادي الشيعي نمر باقر النمر.
وكان لافتاً أن الرئيس إبراهيم رئيسي التقى -على سبيل المثال- مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان على هامش اجتماعات القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عقدت في الرياض في 11 نوفمبر الجاري.
وحده بدا المغرب استثناءً في هذا السياق. إذ لم يقرر بعد تحسين العلاقات مع إيران، التي قطعت في أول مايو 2018، احتجاجاً على الدعم الذي تقدمه إيران لجبهة البوليساريو. وقد أبدى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 29 يونيو الماضي، استعداد بلاده لتطوير العلاقات مجدداً مع المغرب. لكن يبدو أن الأخير تبنى شروطاً معينة في هذا السياق لم تتبلور بعد الظروف التي يمكن أن توفر فرصة لمناقشتها مع إيران والوصول إلى تفاهمات حولها.
الاستثناء المغربي هنا لا يكمن فقط في الدول التي أيدت المواقف السعودية في بداية يناير 2016 فحسب، وإنما يكمن أيضاً في أن المغرب يعد الدولة الوحيدة تقريباً في منطقة شمال أفريقيا التي لم تجرِ مياه كثيرة في مجرى علاقاتها مع إيران خلال المرحلة الماضية.
ففي حين يتواصل التعاون بين المغرب والجزائر، في ظل التماهي السياسي المشترك بين الطرفين حول العديد من الملفات الإقليمية، فقد أعلن عن بدء الترتيبات لاستئناف العمل بالسفارة الليبية في طرابلس، في 12 مارس 2023، وقامت وزيرة الخارجية السابقة بحكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش بزيارة طهران في 25 يوليو 2023، كما زار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان موريتانيا في أول فبراير 2023، وتحاول إيران تطوير علاقاتها مع تونس، وتعرب باستمرار عن استعدادها لرفع مستوى علاقاتها مع مصر.
3- الجهود المغربية لتحجيم النفوذ الإيراني في أفريقيا: كان لافتاً في الفترة الماضية أن المغرب يسعى إلى تعزيز جهوده من أجل مواجهة محاولات طهران لتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية، ولا سيما في منطقة غرب أفريقيا، خاصة في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها تلك المنطقة، سواء بسبب تعدد الانقلابات العسكرية المناوئة للغرب، وخاصة فرنسا، أو بسبب تمدد التنظيمات الإرهابية فيها، فضلاً عن وجود بعض التجمعات الشيعية داخلها.
وقد بدا اهتمام إيران بهذه المنطقة جلياً في مسارعتها إلى الانفتاح على النظام الجديد في النيجر، الذي تشكل في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع في 26 يوليو الماضي، حيث قام وزير خارجية النيجر باكاري ياو سانجاري بزيارة طهران في 24 أكتوبر الفائت. وقد سبق ذلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى موريتانيا في أول فبراير الماضي.
هنا، بدأت الرباط في تكثيف جهودها لمحاصرة الدور الإيراني في القارة الأفريقية بشكل عام، ومنطقة غرب أفريقيا على سبيل الخصوص، وهو ما بدا جلياً في التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أمام مجلس النواب المغربي، في 26 يناير 2022، والتي قال فيها إن “إيران تسعى إلى التمدد في منطقة غرب أفريقيا لنشر مذهبها هناك”، مضيفاً أن “الأمن الروحي للمغاربة والقارة الأفريقية يعتبر من بين الأولويات للتصدي للأطماع الإيرانية في القارة”.
وهنا، فإن إيران ربما تعتبر أن تعزيز علاقاتها مع البوليساريو يمكن أن يوفر لها ورقة ضغط قوية يمكن استخدامها لمساومة -أو بمعنى أدق: لموازنة- الجهود التي يبذلها المغرب لتحجيم نفوذها في غرب أفريقيا.
4- تطلع المغرب إلى تعزيز النفوذ في “الحديقة الخلفية”: تتابع إيران بقلق التحركات المغربية فيما يمكن تسميته بـ”الحديقة الخلفية” لها، وهي منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، التي تحظى باهتمام خاص من جانبها، وتعتبر أن أيّ وجود لدولة أجنبية فيها يمثل مصدر تهديد لأمنها ومصالحها، حتى لو كانت هذه الدولة من بين حلفائها مثل تركيا وروسيا.
ويبدو أن المغرب يسعى إلى تعزيز حضوره في تلك المنطقة، على نحو سوف تعتبره إيران محاولة من جانب الرباط لموازنة حضورها في شمال وغرب أفريقيا، وعلاقاتها القوية مع الجزائر وجبهة البوليساريو.
ففي هذا السياق، عُقدت الدورة الثانية للجنة المشتركة للتعاون الثنائي بين المغرب وأذربيجان، التي يمثل التوتر عنواناً رئيساً لعلاقاتها مع إيران بسبب تطلعها للتعاون مع خصوم الأخيرة مثل إسرائيل، في الرباط في 13 نوفمبر الجاري، حيث وقعت الدولتان 5 اتفاقيات لتعزيز التعاون الثنائي في مجالات الطاقة والبيئة والتنمية المستدامة والعلوم الطبية والصحة والشغل.
توتر مستمر
في ضوء ذلك، يمكن القول إن التوتر سوف يبقى محوراً أساسياً يؤثر على اتجاهات العلاقات بين طهران والرباط خلال المرحلة القادمة، ليس فقط بسبب تصاعد الخلاف حول الدعم الإيراني لجبهة البوليساريو، وإنما أيضاً لتوسيع نطاق التباينات في التعامل مع بعض الملفات الإقليمية التي تحظى بأهمية خاصة من الجانبين، فضلاً عن العلاقات القوية التي تؤسسها الرباط مع دول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.