تعكس التحركات النشطة التي يقوم بها السفير الروسي الجديد لدى ليبيا آيدار أغانين صورة جديدة للدور الروسي في ليبيا. فالسفير الذي توجه إلى طرابلس، في 26 يونيو الفائت، عقب إعادة افتتاح سفارة بلاده، أجرى العديد من اللقاءات مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في 12 يوليو الجاري، فضلاً عن بعض وزراء حكومة الوحدة، وشملت تلك اللقاءات تناول العديد من الملفات الخاصة المتعلقة بمستقبل العملية السياسية الليبية، بالإضافة إلى تناول العلاقات الاقتصادية التي يتصدرها مجال النفط، كأحد أبرز المجالات المشتركة بين البلدين.
في السابق، كانت الصورة الشائعة عن الدور الروسي في ليبيا تتصدرها العلاقات الروسية مع شرق ليبيا ودور مجموعة “فاجنر” هناك، وربما ساهم الموقف السياسي الغربي في تسليط الضوء على هذه الصورة، التي تعززت منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية (24 فبراير 2022)، وأدى ذلك إلى التغطية على الدور السياسي الروسي الفاعل في الملف الليبي، ولا سيما التحركات الروسية في مجلس الأمن، وهو دور مؤثر في اتخاذ أي قرار دولي تجاه الأزمة الليبية، وكثيراً ما اختلف الموقف الروسي مع مواقف القوى الغربية، ونادراً ما جرى التوافق بينهما، فضلاً عن أن روسيا كانت إحدى وجهات الساسة الليبيين على اختلاف توجهاتهم السياسية.
نقلة نوعية
لم تكن قنوات العلاقات الدبلوماسية الليبية-الروسية مُفعَّلة بالشكل الرسمي الذي كانت عليه قبل اندلاع الأزمة الليبية، وذلك على الرغم من قوة تأثير الحضور الروسي في ملف الأزمة الليبية. فروسيا لم تعين سفيراً لها في ليبيا منذ سحبها السفير فلاديمير تشاموف على خلفية الفوضى التي عمت البلاد عقب الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011 والذي كان ينظر إليه كحليف قوي لها، وذلك على عكس الموقف الغربي، فأغلب القوى الغربية كان لها ممثلون دبلوماسيون (سفراء أو قائمون بالأعمال) في طرابلس أو يباشرون مهامهم الدبلوماسية من تونس، في حين اقتصرت موسكو على تبادل بعض الزيارات التي يقوم بها بعض الدبلوماسيين الروس إلى طرابلس، ولا سيما نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، واللقاءات في الفاعليات الدولية الخاصة بليبيا.
وحكم ذلك الموقف منظور الطرفين للعلاقات والمصالح المشتركة، فروسيا من جانبها كانت تشهد تطور العلاقات ما بين حكومات طرابلس والولايات المتحدة والأطراف الغربية على حساب العلاقات معها. كما اعتبرت قوى غرب ليبيا، وفي مقدمتها الفصائل المسلحة، أن روسيا تمثل من خلال وجود “فاجنر” تهديداً لها، فضلاً عن أن التعاون الذي كان قائماً بين روسيا والنظام السابق كان أحد محددات تلك العلاقات، إذ إن موسكو تصر منذ بداية الأزمة على عدم استبعاد التيارات المحسوبة على النظام السابق من العملية السياسية، وهو ما شكل محدداً آخر لمنظور قوى غرب ليبيا التي ترى أن روسيا تسعى إلى إعادة إنتاج هذا النظام مرة أخرى.
ويأتي تطور استئناف العلاقات الدبلوماسية ليشكل نقلة في منظور الطرفين، فقد أشار السفير الروسي الجديد بخصوص تسميته في 29 ديسمبر الماضي، إلى أن الظروف الأمنية في ليبيا باتت أفضل مما كانت عليه. ومع ذلك، يعتقد وفقاً للعديد من التقديرات المحلية الليبية، أن هناك متغيرات أخرى، منها أن موسكو بصدد إعادة تغيير شكل دورها في ليبيا، وأن مظاهر هذا التغيير تتمثل في الانفتاح على كافة الأطراف. ثم جاء تمرد مجموعة “فاجنر” الروسية ليعزز هذه الصورة، إذ إن موسكو باتت أكثر احتياجاً لرافعة دبلوماسية لإدارة العلاقات بشكلها الرسمي مع الحكومة الليبية في طرابلس. وعلى الأرجح -وفقاً لتقديرات غربية- فإن موسكو ستعيد هيكلة قيادة مجموعة “فاجنر”، بالإضافة إلى احتمال تغيير دورها ليرتكز بشكل أساسي على تأمين المصالح الروسية في ليبيا.
على الجانب الآخر، فيما يتعلق بالمنظور الليبي، لم يعد من المتصور أن وجود “فاجنر” سيشكل تهديداً وجودياً لأركان غرب ليبيا أو حتى للفصائل المسلحة. كما أنه من غير الوارد العودة للاحتراب ما بين الشرق والغرب على النحو الذي كان عليه في 2019. كذلك، فإن المجلس الرئاسي يتبنى ملف المصالحة الوطنية، ومن ثم يعتقد أن عملية إدماج النظام السابق في العملية السياسية باتت خياراً وطنياً أكثر منه طلباً خارجياً. صحيح أنه لا يعتقد أن عملية الإدماج تتم بشكل طوعي سلس، كما أن القوى الفصائلية في غرب ليبيا لديها تحفظات على هذا الأمر، لكن في كل الأحوال تغيرت مساحة مشاركة النظام السابق في السلطة الانتقالية، وسيكون المحك الرئيسي هو الانتخابات المقبلة حال الوصول إلى هذه المحطة.
متغيرات رئيسية
على النحو السابق، من المتصوّر أن الدور الدبلوماسي الروسي سيشكل قيمة مضافة لموقع روسيا في المشهد الليبي، وهو ما سيعتمد على المتغيرات التالية:
1- اتساع مجال الحركة الروسية في ليبيا: تشكل إعادة تموضع روسيا في العاصمة الليبية طرابلس نافذة رئيسية للحركة في كل ليبيا، على عكس الوضع السابق، وهو ما سيمنح موسكو هامشاً أوسع لسياستها الخارجية في ليبيا، والاقتراب أكثر من تفاعلات المشهد الليبي الذي كانت تتعامل معه عن بُعد، كما أنها باتت قريبة من كافة الأطراف السياسية في الميدان، سواء منافسيها الدوليين، أو القوى المحلية الليبية.
2- تزايد الانخراط الروسي في المشهد السياسي: خلال لقاء السفير أغانين مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، أكد السفير على دعم روسيا لآلية المراقبة المالية العليا التي شكلها الرئاسي مؤخراً لتفادي تنامي الأزمة ما بين شرق وغرب ليبيا على خلفية اتهام الرقابة الإدارية لحكومة الوحدة الوطنية بإهدار المال العام. كما أكد السفير الروسي في لقاءه مع رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح دعم بلاده للمفوضية لإنجاز العملية الانتخابية، وهي نقطة مهمة بالنظر إلى تأكيد روسيا على ضرورة تمثيل كافة التيارات السياسية في العملية الانتخابية، وبالتالي تحرص من جهة على ترسيخ أولوية العملية السياسية، ومن جهة أخرى على إعلاء مبدأها في تمثيل الجميع.
3- تنمية الشراكة في القطاع النفطي: وذلك في ضوء اللقاء الذي جمع أغانين مع وزير النفط والغاز في حكومة الوحدة محمد عون، حيث تم التوافق على ضرورة تفعيل اللجنة المشتركة واللقاءات والزيارات وإقامة المؤتمرات والندوات وورش العمل، للتعريف بالتقنية الروسية في الصناعات النفطية. وكان هناك اتفاق موقع عام 2017 مع حكومة الوفاق السابقة، إلا أنه لم يُفعَّل، ولم تتوسع الشركات الروسية في ظل المنافسة القوية من الشركات الغربية. ومع ذلك، أعلنت شركة “تات نفط” الروسية عن اكتشافات بترولية جديدة في حوض غدامس العام الماضي، لكن يعتقد أن روسيا ستكون منافساً قوياً في القطاع في ظل حاجة ليبيا لزيادة الإنتاج وتطوير البنية التحتية باستثمارات أجنبية وفقاً لما أعلنه رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة مؤخراً.
دور جديد
في الأخير، من المتصور أن الحضور الدبلوماسي الروسي في طرابلس سيعيد هيكلة الدور الروسي في ليبيا، حيث ستعتمد روسيا في المقام الأول على الآلية الدبلوماسية، بعد أن اعتمدت في السابق على عملاء مثل الباحثين مكسيم شوغالي وسامر سويفان، ثم دور مجموعة “فاجنر” في شرق وجنوب البلاد.
وفي حين ينظر إلى الانتقال من الأدوات غير التقليدية في السياسة الخارجية إلى الأدوات الطبيعية، فإن حجم التحديات التي تواجهها روسيا على الساحة الليبية سيختلف. غير أن حالة روسيا قد تمثل استثناء، فممارسة موسكو دورها في ليبيا عبر الآلية الدبلوماسية لن يخفف من حجم التحديات التي تواجهها نظراً لأن ليبيا هي إحدى ساحات المواجهة الساخنة بين روسيا والغرب. لكن على الصعيد الداخلي، ستستفيد روسيا أكثر من إدارة سياستها عن قرب، وربما سيكون من أولوياتها كسب المزيد من الحلفاء المحليين، وتنمية المصالح، وإعادة تصحيح وضع مجموعة “فاجنر”.