عُقِدَت السبت الماضي «قمةُ جدة للأمن والتنمية»، وقبل انعقادها تكاثر الحديث عن «ناتو» شرق أوسطي تدور جهودٌ حثيثةٌ لإعلانه في هذه القمة، وكان مفهوماً أنه سيكون موجهاً ضد إيران. بل زاد البعضُ بالحديث عن أن هذا «الناتو» قد أصبح من تحصيل الحاصل رغم ما تنطوي عليه فكرتُه من تعارض ظاهر مع منطق الجهود الأميركية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران.
وكان واضحاً أن المسَلِّمين بأن «الناتو» الشرق أوسطي قادم لا محالة ليسوا أولاً على وعي بدروس الخبرة الماضية لإنشاء تحالفات شرق أوسطية، إذ فشلت كل هذه الجهود بدءاً بمشروع قيادة الشرق الأوسط في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وانتهاءً بمقترح ترامب في هذا الصدد، في إشارة واضحة لاستحالة الفكرة أصلاً، ذلك أنه إذا كان المد القومي العربي في الخمسينيات قد تكفَّل بإفساد مشروعات التحالفات الشرق أوسطية، فإنها انتهت إلى العدم حتى في ظل تردي الأوضاع العربية، كما أنهم ثانياً ليسوا مدركين للتحولات التي طرأت على موازين القوى العالمية والإقليمية والتي تشير لتراجع نسبي في القوة الأميركية وصعود نسبي لقوى إقليمية بينها دول عربية وازنة.
فكيف تنجح المشاريع التي فشلت سابقاً في ظل موازين قوى أفضل من وجهة النظر العربية؟ ولا شك في أن هؤلاء قد أُصيبوا بالإحباط عندما بدأت تصريحات رسمية عربية على أعلى مستوى تؤكد هذا المعنى، ففي اليوم السابق على القمة صرّح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بأن العراق «لم ولن يكون اليوم ولا غداً في أي محور أو حلف عسكري»، وقبلها كان قد صرح بأن العراق لا يمكن أن يكون منطلقاً لتهديد أي دولة، وهي تصريحات تتسق والدور التوفيقي الذي يحاول العراق بجدية لعبه في محيطه الخليجي خاصةً.
وإذا كانت تصريحات الكاظمي قد جاءت عامةً، فقد جاءت تصريحات معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، مباشِرةً، إذ صرح بأن الإمارات لن تكون جزءاً من محور ضد إيران، وهو تصريح يتسق كل الاتساق مع السياسة الخارجية للدولة كما عبّر عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في كلمته الضافية الأخيرة التي وجهها لمواطني الدولة والمقيمين على أرضها، بقوله: «نمد يد الصداقة لكل دول المنطقة والعالم التي تشاركنا قيم التعايش والاحترام المتبادل لتحقيق التقدم والازدهار لنا ولهم»، كما أكد الاستمرار في النهج الراسخ نحو تعزيز جسور الشراكة والحوار والعلاقات الفاعلة والمتوازنة القائمة على الثقة والمصداقية والاحترام المتبادل مع دول العالم لتحقيق الاستقرار والازدهار للجميع.
ويُضاف إلى ذلك الموقف المصري المعروف برفضه المبدئي لفكرة الأحلاف ذات المكون الأجنبي منذ ظهرت أولى محاولاتها في صورة «مشروع قيادة الشرق الأوسط» مطلعَ خمسينيات القرن الماضي وحتى مقترح ترامب حول «ناتو» شرق أوسطي.
وعندما عُقِدَت القمةُ بالفعل لوحظ غيابُ أدنى إشارة للفكرة في كلمات القادة العرب الذين تحدثوا في الجلسة الافتتاحية، كما أن بيانها الختامي جاء خُلْواً من الإشارة للفكرة من قريب أو من بعيد، رغم شموله لكافة القضايا المُثارة على الساحتين العالمية والإقليمية، بل تضمن دعوةً لإيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ودول المنطقة لإبقائها خاليةً من أسلحة الدمار الشامل وللحفاظ على الأمن والاستقرار إقليمياً وعالمياً.
وقد صرّح وزير الخارجية السعودي عقب مؤتمر القمة بأنه لا يوجد «ناتو عربي» وبأن بلاده لم تشارك في أي مشاورات بهذا الشأن. وهكذا تجنّب العربُ بهذا الأداء المتميز منزلقَ السقوط في وهدة الاستقطاب والعسكرة التي نشاهد الآن ويلاتها بأعيننا.
نقلا عن الاتحاد