في ظل سلسلة من العقوبات الاقتصادية المفروضة من الدول الغربية على روسيا، بسبب الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن المزاحمة في سوق الطاقة؛ تحاول الدبلوماسية الروسية، التي يقودها وزير الخارجية سيرجي لافروف، التحرك في نطاق أوسع، في أفريقيا وآسيا، والشرق الأوسط الذي يُعتبر نقطة ارتكاز مهمة بالنسبة إلى روسيا، تحاول من خلالها أن تؤكد مكانتها كقوة كبرى، إضافة إلى ما تُمثله هذه الدوائر من بدائل وأسواق مختلفة، خاصة في مجال الطاقة ومبيعات الأسلحة.
في هذا الإطار، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 6 فبراير الجاري، بزيارة رسمية إلى العاصمة العراقية بغداد، التي تُمثل المحطة الأولى في جولة يزور خلالها أيضاً مالي والسودان، يبحث فيها مع المسئولين العراقيين العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والطاقة والتسليح، وعدداً من القضايا الدولية والإقليمية ومدى تأثرها بالحرب في أوكرانيا.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية أحمد الصحاف، قد أعلن، في 5 فبراير الجاري، أن لافروف سيبحث مع نظيره العراقي فؤاد حسين، ومع الرئاسات العراقية الثلاث للبلاد والحكومة والبرلمان، جملة من القضايا والملفات المتصلة بشئون الاستثمار والطاقة، وتعزيز العلاقات الثنائية وأهمية دعمها وتوسيعها في مختلف المجالات.
وبيَّن الصحاف أن “الوفد المرافق لوزير الخارجية الروسي، رفيع المستوى دبلوماسياً واقتصادياً واستثمارياً، ويضم شركات متعددة نفطية غازية، إضافة إلى شركات في مختلف القطاعات”، موضحاً أن “الوفد يضم إعلاميين لأكثر من 25 جهة إعلامية روسية، ستكون حاضرة اللقاءات”.
اعتبارات عديدة
الملاحظ، أن آخر زيارة للافروف إلى العراق كانت في عام 2019، وأن الزيارة الحالية التي يقوم بها تأتي قبل توجه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في 8 فبراير الجاري. وترتبط زيارة لافروف إلى بغداد بعدد من الدوافع الاقتصادية والسياسية التي يتمثل أبرزها في:
1- الاستثمارات الروسية في المجالات النفطية والغازية: يُعد قطاع الطاقة أساسياً لنفوذ روسيا في العراق؛ وقد استفادت الأولى من العقوبات الأمريكية المُشدَّدة على إيران، التي أعاقت -نسبياً- تدفق الغاز الإيراني إلى العراق، من أجل تقديم نفسها بوصفها بديلاً فعالاً للحكومة العراقية. ويبدو أن طموح موسكو لم يتوقف عند حدود السيطرة شبه الكاملة على قطاع الطاقة في إقليم كردستان العراق، عبر شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنفت”؛ بل باتت تطمح لتأسيس وجود نفطي أكثر قوة في قطاع النفط القوي في جنوب البلاد.
2- التعاون الاقتصادي وتفعيل مذكرات التفاهم المشتركة: سبق لروسيا والعراق أن وقعتا، عام 2021، مذكرات تفاهم بلغ عددها 14 مذكرة، شملت عدة قطاعات بينها الطاقة والتربية والصحة، سيجري العمل خلال زيارة لافروف هذه على تفعيلها والعمل بها. وفضلاً عن قطاع الطاقة، يتركز التعاون بين البلدين حالياً على فتح السوق العراقية للشركات الروسية المتخصصة في بناء المحطات الكهربائية والاستكشاف الجيولوجي، وتصدير القمح والمنتجات الزراعية الأخرى. كما تُولي روسيا اهتماماً لتنويع العلاقات الاقتصادية مع العراق، فيما يتعلق بالاستثمار في مشاريع الطرق والسكك الحديدية، وكذلك استخراج المعادن والهيدروكربونات.
3- التنسيق السياسي وتعزيز صفقات التسليح: أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية إلى أن الجانبين، العراقي والروسي، سيبحثان جملة من القضايا والملفات التي تتصل بطبيعة العلاقات الثنائية، مؤكداً أن الزيارة تأتي “لبحث أهم التطورات على مستوى المنطقة، واستشراف الرؤى المشتركة، وإيجاد مُقاربات أساسية بين بغداد وموسكو، حول أهم التحديات التي ينبغي العمل عليها بشكل مشترك”، بما يعني التنسيق السياسي حول الملفات التي تحتاج إلى تقارب في الرؤى ومواقف على المستويين الدولي والإقليمي.
وبخصوص صفقات التسليح، فقد تسارعت الجهود الروسية في هذا المجال، بدءاً من عام 2014، عندما احتاجت العراق إلى مساعدة فورية في محاربة تنظيم “داعش”، وحين أخَّرت واشنطن المساعدة العسكرية، حينئذ بلغت قيمة الواردات العسكرية العراقية من روسيا 1.7 مليار دولار، بحسب بعض التقديرات. ومنذ أكثر من عام، أعلن وزير الخارجية الروسي، خلال مؤتمر صحفي له مع نظيره العراقي، في نوفمبر 2021، عن استعداد موسكو لتلبية “أي طلب ستتلقاه من قِبل العراق، في مجال التسليح”، منوهاً إلى أن “روسيا كانت ولا تزال تلعب دوراً بالغ الأهمية في ضمان القدرات الدفاعية للعراق، وتسليح جيشها وأجهزتها الأمنية”.
4- دعم العلاقات الروسية مع مكونات الداخل العراقي: كان عام 2015 عاماً محورياً على طريق محاولة روسيا استعادة نفوذها، ليس في العراق وحده، ولكن بالنسبة إلى الشرق الأوسط ككل. ففي ذلك العام، تدخَّلت موسكو في الحرب الأهلية السورية، ونجحت في إنقاذ النظام السوري من السقوط، على عكس ما حدث في ليبيا. ومنذ ذلك الحين شرعت موسكو في إعادة بناء نفوذها في العراق.
في البداية، قدَّمت روسيا نفسها بوصفها داعماً بديلاً للأكراد العراقيين، عوضاً عن الحليف الأمريكي المتردد، وبدأت في ترسيخ وجودها في إقليم كردستان العراق، عبر ضخ الاستثمارات في مجال الطاقة. وبالتزامن مع ذلك، شرعت في إقامة علاقات مع المليشيات الشيعية المدعومة من إيران في بغداد. وأكثر من ذلك، اغتنمت روسيا الفزع العالمي الذي أثاره صعود تنظيم “داعش” لتقدم نفسها للحكومة العراقية بوصفها شريكاً موثوقاً به في مكافحة الإرهاب، لتنجح في إقناعها بالانضمام إلى مركز معلومات رباعي، ضمَّ موسكو وبغداد ودمشق وطهران، بهدف مطاردة التنظيم وتصفية فلوله. وبالتالي، تأتي زيارة لافروف هذه لتُؤكد تفعيل العلاقات الروسية مع المكونات السياسية في الداخل العراقي.
تعزيز النفوذ
في هذا السياق، يمكن القول إنه من المبكر جداً توقع أن تستعيد روسيا كامل نفوذها السابق قبل 1991 في العراق، أو إمكانية أن تستطيع إزاحة الدور الأمريكي فيه، أو حتى منافسة الدور الإيراني. ولكن يبدو أن روسيا بدلاً من ذلك تحاول “تقوية نفوذها” عبر القطاعات الاقتصادية العراقية الرئيسية، خاصة في مجالات الطاقة والتسليح. وأيضاً تحاول اللعب على وتر دعم القوى المناوئة للوجود الأمريكي في العراق، خاصة المليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وحتى في الوقت الذي تواجه فيه روسيا منافسة، فقد أدركت أهمية الصراع الجيوسياسي بالنسبة إلى العراق، في وقت يبدو فيه التزام واشنطن تجاه العراق متأرجحاً؛ هذا في الوقت الذي لا تُظهِر فيه موسكو أي إشارات للانفصال عن إيران، رغم الاختلافات التكتيكية، لدورها المُتنفذ في العراق.