تصاعدت حدة التوتر السياسي في تونس مع قرار الحكومة، في 9 نوفمبر الجاري، بتوقيف عدد من رجال الأعمال، في الصدارة منهم رضا شرف الدين الذي يُعد أحد كبار الاقتصاديين في البلاد، الأمر الذي يشير إلى استمرار مواصلة تفكيك شبكات الفساد، وتعثر تثبيت مسار الصلح الجزائي، والالتفاف على عجز الحكومة في إدارة الاقتصاد، والتغطية على منع تمرير قانون التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يُنذر بالعديد من التداعيات المحتملة على بيئة الأعمال وعلى حدة الاستقطاب في الداخل التونسي.
فقد شهدت الأيام الأخيرة في تونس خلافات كبيرة بين رئيسها قيس سعيّد وخصومه السياسيين في الداخل بعد توقيف عدد من رجال الأعمال المؤثرين في مجالات المال والاقتصاد، بتهم يتعلق أغلبها بشبهات فساد مالي واستغلال نفوذ، وآخرهم توقيف رضا شرف الدين، في 11 نوفمبر الجاري، والذي يمتلك شركات في مجال تصنيع الأدوية، وهو الرئيس السابق لفريق النجم الرياضي الساحلي ونائب سابق بالبرلمان، والذي تمت إحالته إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
جدل محتدم
أدّت التوقيفات في صفوف رجال الأعمال التونسيين، بالإضافة إلى عددٍ من السياسيين المعارضين في وقت سابق، إلى تصاعد حدة الجدل في تونس، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- استمرار مواصلة تفكيك شبكات الفساد: جاء أمر اعتقال عدد من رجال الأعمال في إطار تنفيذ حملة الرئيس سعيد الخاصة بمواصلة الحرب على الفساد بشتى صوره، ولا سيما داخل القطاع المالي. وقد أرجع الرئيس قيس سعيد حملات الاعتقالات الأخيرة في أوساط رجال الأعمال إلى إصرار حكومته على المضيّ قدماً في مكافحة الفساد وتطهير البلاد.
وشملت التوقيفات رجل الأعمال وصهر الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مروان المبروك، بالإضافة إلى عبدالرحيم الزواري الوزير السابق في عهدة بن علي، وكذلك رجل الأعمال نجيب إسماعيل. ويتهم سعيد هؤلاء بالاستيلاء على أموال شركات مصادرة من قبل الدولة، وتبييض أموال والتهرب الضريبي والتدليس، فضلاً عن اتهام بعضهم بالتورط في أزمات نقص بعض السلع الاستراتيجية، وارتفاع الأسعار في البلاد بهدف تأجيج الأوضاع الاجتماعية.
2- تعثر تثبيت مسار الصلح الجزائي: في مارس 2022، أعلن سعيد طرح مرسوم يتعلق بالصلح الجزائي مع رجال الأعمال بهدف استرداد الشعب أمواله المنهوبة مقابل إسقاط التهم القضائية المتعلّقة بهم. بيد أن هذا القانون لم يحقق المرجو منه بصورة كافية، حيث كان من المتوقع جمع نحو 4,5 مليارات دولار، من عائدات تسوية ملفات المتهمين بالفساد، والبالغ عددها 460 ملفاً، وفقاً لتقديرات لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، وجميعهم متهمون بتحقيق أرباح ومنافع غير قانونية بسبب قربهم من نظام بن علي. في هذا السياق، يبرر النظام التونسي توجهه نحو آلية إعادة الاعتقال للمتهمين من رجال الأعمال، بهدف تثبيت مسار الصلح الجزائي، والتأكيد على إصرار الدولة على عودة الأموال المنهوبة. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس سعيد أشار في تصريحات له، في يونيو 2023، إلى أن رجال الأعمال لم يفوا بوعودهم في إعادة الأموال المنهوبة مقابل تبرئة ساحتهم القانونية.
3- الالتفاف على عجز الحكومة في إدارة الاقتصاد: عبّر الخصوم السياسيون للرئيس قيس سعيد عن رفضهم لعمليات التوقيف التي يمارسها النظام الحاكم، والتي امتدت لكافة المجالات، ووصفت أن ما يحدث حالياً من إجراءات ضد رجال الأعمال، وتقديم بعضهم للمحاكمة، ومحاصرة أنشطة آخرين؛ يأتي في سياق محاولة الرئيس وحكومته للتحايل والالتفاف على الفشل الاقتصادي، والتردي الحادث في الأوضاع المعيشية، خاصة في ظل تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد.
بالتوازي، فإنّ ثمة تقديرات محلية تربط تنامي الممارسات القمعية للحكومة، بعجز حكومة أحمد الحشاني في إسعاف الاقتصاد التونسي أو محاصرة تحدياته، حيث لا تزال البلاد تعاني من أزمة اقتصادية ومالية، تفاقمت حدتها جراء الحرب في أوكرانيا، وزادت وطأتها بفعل ارتدادات أزمة غزة. ويشار إلى أن الاقتصاد التونسي يشهد ارتفاعاً لافتاً في معدلات التضخم، بالإضافة إلى انهيار سعر صرف العملة الوطنية، وارتفاع أرصدة الديون الخارجية. كما دخلت العلاقة مؤخراً مناخ الشحن بين الحكومة التونسية والاتحاد العام للشغل، وظهر ذلك في إعلان الأخير في 2 أكتوبر 2023 عن تعثر اتفاق زيادة الأجور في البلاد، بسبب عدم استجابة الحكومة لاستئناف المفاوضات المتعلقة برفع أجور موظفي الدولة، رغم وجود اتفاق مسبق بذلك.
4- التغطية على منع تمرير قانون التطبيع مع إسرائيل: يرى بعض المراقبين أن توقيف عدد من رجال الأعمال في التوقيت الحالي لا ينفصل عن محاولات الرئيس قيس سعيد التغطية على عدم صدور قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل، وصرف الانتباه الشعبي بعد تعطيل المصادقة على القانون في البرلمان بتعليمات رئاسية. وشهد البرلمان التونسي، في 4 نوفمبر الجاري، انقساماً وخلافات عميقة بسبب التأخير في تمرير القانون؛ إذ إن ثمة قناعة لدى الرئيس سعيد بأن القانون قد يمسّ بالمصالح التونسية، وينعكس على مصالحها مع العالم الخارجي.
تداعيات محتملة
تحمل عملية توقيف عدد من رجال الأعمال والرموز المالية الكبيرة في تونس، وبخاصة رضا شرف الدين، العديد من التداعيات المحتملة، في الصدارة منها، تصاعد حدة الاستقطاب السياسي في الداخل، خاصة مع رفض قطاعات سياسية واسعة لسياسات قيس سعيد، وإدانتها الممارسات الأمنية ضد خصومه السياسيين، وهو ما قد ينعكس على زيادة حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد منذ الإجراءات الاستثنائية التي أصدرها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021.
في المقابل، يرجح أن تقوم التيارات المعارضة بتوظيف حادث اعتقال رجال الأعمال للتصعيد سياسياً ضد الرئيس سعيد، خاصة أنها طرحت خلال الفترة الماضية مبادرة لتطوير الحياة السياسية، وإعادة إنتاج نظام سياسي جديد قادر على تلبية طموحات التونسيين.
ويتوقع أيضاً أن تسفر هذه الإجراءات عن إقصاء ومحاصرة الدائرة المالية القريبة من نظام بن علي، وظهر ذلك في توقيف شرف الدين، وكذلك رجل الأعمال وصهر الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مروان المبروك، الذي يسيطر على عدة شركات في مجال الاتصالات والمصارف وقطاع السيارات والتجارة.
كما يرجح أن تسفر هذه الاعتقالات في صفوف رجال الأعمال عن حدوث ركود أو توتر داخل الأوساط الصناعية والمالية في البلاد، إذ إن من تم توقيفهم يمثلون أقطاباً صناعية ومالية كبيرة، وبالتالي ربما يترتب على توقيفهم إصابة السوق التونسية بمزيد من الإرباك والتشتت في الوقت الحالي، وزيادة مخاوف الآخرين من المستثمرين، من احتمالات أن يدخلوا في دائرة التوقيف أو المحاسبة.
على صعيد متصل، قد تساهم عمليات التوقيف لرجال الأعمال في تونس في حدوث اضطرابات لنظام الرئيس قيس سعيد على المستوى الخارجي، إذ يتوقع زيادةانتقادات الأوساط الاقتصادية والنقدية الدولية لحالة الارتباك التي تعاني منها الحكومة، ناهيك عن أن هذه الاعتقالات ربما تعطي صورة سلبية لمناخ الأعمال. ويشار إلى أن العديد من المنظمات الاقتصادية الدولية وجهت انتقادات حادة للاقتصاد التونسي. فعلى سبيل المثال، خفضت وكالة فيتش في أكتوبر 2023 تصنيف تونس الائتماني إلى مرحلة “سي سي سي” سالب (CCC-). ويعكس خفض التصنيف الائتماني عدم اليقين بشأن قدرة البلاد على جمع التمويل الكافي لتلبية متطلباتها المالية الكبيرة.
بالتوازي مع ما سبق، فإن عملية التوقيف أوساط رجال الأعمال، قد تساهم في تنامي منسوب الاحتجاجات المطلبية، إذ إن شركات ومؤسسات من تم توقيفهم قد تتعطل عن الإنتاج أو على الأقل تخفيض دورتها الإنتاجية، وهو ما يعني إمكانية الاستغناء عن جانب من العمالة، وتجميد أية توسعات محتملة في مؤسساتهم.
تأثيرات متباينة
ختاماً، يمكن القول إن عملية توقيف بعض رجال الأعمال الكبار في تونس، قد تزيد من حدة الاحتقان السياسي في البلاد، بالإضافة إلى مخاطرها المحتملة على الدورة الاقتصادية التي تعاني بدورها عجزاً لافتاً. بيد أن هذه الخطوة ربما تحمل فائدة إيجابية محتملة، وهي دفع المتورطين في قضايا فساد أو تبيض أموال للإسراع بتنفيذ التزاماتهم تجاه الدولة بموجب قانون الصلح الجزائي، وهو ما يرجح أن تشهد الفترة القادمة مزيداً من انخراط مزيدٍ من رجال الأعمال لتسوية قضاياهم المالية، الأمر الذي من شأنه إنعاش خزينة الدولة.