لا يزال ملف المليشيات المسلحة في الشرق الأوسط يمثل أحد التحديات الرئيسية أمام العديد من الدول. فعلى امتداد المنطقة، نجحت المليشيات المسلحة، بأنماطها المختلفة، خلال السنوات الماضية، في تعزيز نفوذها، إذ بدا أن صعودها يُقوِّض الكثير من الفرضيات التقليدية التي قامت عليها الدولة القومية الحديثة، والتي ظلت لعقود تمتلك – وفقاً لماكس فيبر – حق احتكار استخدام القوة، والسيطرة الكاملة على كافة مكونات الإقليم الخاضع لها. فقد ظهرت التنظيمات المسلحة كمُنازِع للدولة على اختصاصاتها ومساحة سيادتها، ناهيك عما أفضت إليه الصراعات الداخلية، التي اندلعت في العديد من دول المنطقة خلال السنوات الماضية، من سياقات مُحفِّزة لتعاظم نفوذ تلك المليشيات الطامحة إلى إحداث تغييرات جذرية في تفاعلات السلطة وأنماط تخصيص الموارد داخل الدولة.
تعقيدات عديدة
استدعى ملف المليشيات المسلحة في المنطقة جدلاً متصاعداً في الآونة الأخيرة، حيث تزايدت الأطروحات المتعلقة بمواجهة نفوذ المليشيات في عدد من دول المنطقة. فخلال الشهور الأخيرة، دعت بعض الأطراف الدولية والإقليمية إلى ضرورة سحب المرتزقة من ليبيا، وربطت بين هذا الملف والمسار السياسي واستكمال الاستحقاقات الانتخابية. والأمر ذاته، بالنسبة للمليشيات المسلحة الموجودة في سوريا، وخاصة أن نسبة لا بأس بها من هذه المليشيات تعتمد على عناصر خارجية تم استحضارها للمشاركة في الصراع.
كما عادت قضية المليشيات المسلحة في العراق إلى الواجهة مجدداً بعد تصريحات الزعيم الصدري والفائز بالنسبة الأكبر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، مقتدى الصدر، في 18 نوفمبر الجاري، التي طالب خلالها بـ”حل الفصائل المسلحة أجمع، دفعة واحدة، وتسليم سلاحها للحشد بإشراف القائد العام للقوات المسلحة”. وبعد هذه التصريحات بيومٍ، أعلن الصدر، في بيان منشور على “تويتر”، أنه تم حل فصيل لواء “اليوم الموعود” الموالي له وإغلاق مقاره، وأضاف في البيان: “عسى أن تكون هذه الخطوة بداية لحل الفصائل المسلحة وتسليم أسلحتها وغلق مقراتها”.
لكن رغم هذه المطالب والتوجهات، فإن ملف المليشيات ينطوي على تعقيدات تضفي إشكاليات عديدة على أطروحات حلها، وتتمثل أهم هذه التعقيدات فيما يلي:
1- السلطة البديلة لمؤسسات الدولة: أنتجت الصراعات الراهنة بالمنطقة أنماطاً من التفاعلات لم تعد الدولة هى الطرف الوحيد والرئيسي فيها، بل بالعكس ظهر الفاعلون من غير الدول كأطراف متصدرة للمشهد، وقادرة على التأثير في معطياته. وعليه، أعادت المليشيات المسلحة، بشكل أو بآخر، تعريف الصراعات في المنطقة عبر طرح سرديات مختلفة لهذه الصراعات. ويلاحظ في هذا الصدد، أن المليشيات المسلحة مثلت، في الكثير من الصراعات القائمة في المنطقة، نموذج السلطة البديلة للنظام القائم، ومؤسسات الدولة، بل إن بعض هذه المليشيات في مناطق سيطرتها أنتجت نمطاً من السلطة المؤسسية المشابهة لسلطة الدولة.
وفي هذا الإطار، باتت المليشيات المسلحة تؤدي دوراً في تفكك، أو على أقل تقدير، تغير ملامح الدول في المنطقة، فثمة مليشيات مسلحة لديها تصور مغاير لشكل الدولة، واستغلت فرصة تراجع سلطة الأخيرة لتطبيق هذا التصور، ظهر هذا الأمر مثلاً في حالة الأكراد في سوريا، فقد استغلت المليشيات الكردية في شمال سوريا، مثل “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب “الاتحاد الديمقراطي”، الصراع القائم من أجل إقامة نمط أقرب إلى الحكم الذاتي في مناطق تواجدها، كجزء من مطالب الأكراد التاريخية في المنطقة.
2- اقتصاديات الحرب والمليشيات المسلحة: أفضت الصراعات القائمة في المنطقة منذ أحدات الربيع العربي إلى تراجع سلطة الدولة وقدرتها على القيام بوظائفها لتنشأ قوى موازية تستفيد من هذا الغياب اقتصادياً، وذلك في خضم ما يطلق عليه اقتصاد الحرب والذي يعرفه تيم إيتون بأنه “الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على وجود العنف وإدارته أو إطالة أمده”. وهكذا، تكونت شبكات من اقتصاديات الحرب في دول الصراعات تستفيد من استمرار الصراع. ففي ليبيا، على سبيل المثال، تتنافس المليشيات المسلحة على السيطرة على طرق التهريب، والبنية التحتية للنفط والغاز الطبيعي، ومراكز الحدود، والبنية التحتية للنقل باعتبارها مصادر هامة للدخل. ولم تكن هذه الشبكات غائبة أيضاً عن الصراع في سوريا الذي شهد هو الآخر نمطاً من العلاقة بين الجريمة والصراع The Crime-Conflict Nexus، حيث أصبحت الجريمة المنظمة مصدراً للدخل يتم استخدامه في تغذية العنف.
3- توازنات الصراعات في المنطقة: فالمليشيات المسلحة باتت جزءاً هاماً من توازنات الصراعات القائمة في المنطقة، لاسيما مع تحولها إلى أداة لبعض القوى الإقليمية لتحقيق مصالحها في بعض صراعات المنطقة. علاوة على ذلك، فقد لجأت بعض الأنظمة إلى الاستعانة بعدد من الفاعلين العنيفين خارج دوائرهم الرسمية لمواجهة الضغوط المفروضة عليها من القوى المناوئة لها في الصراعات، وهذا الأمر أفضى إلى التكريس لظاهرة دولة الصفقات أو المقايضات Transactional State، بحسب تعبير لينا الخطيب ولينا سينجاب، وهى الدولة التي تقوم على الصفقات المتبادلة بين النظام وأنصاره وفي ظلها باتت دوائر السلطة المحدودة والأصغر حجماً أكبر وأكثر نفوذاً، وهؤلاء المستفيدون الجدد من التعامل مع النظام يسعون في المقام الأول إلى تحقيق مصالحهم الخاصة.
4- تفعيل منظومة الحرب بالوَكالة: اضطلعت المليشيات المسلحة بدور رئيسي في تفعيل منظومة الوَكالة بالمنطقة خلال السنوات الماضية، لاسيما أن الصراعات التي مرت بها المنطقة لم يعد من الممكن وصفها، بصورة مختزلة، كصراعات داخلية، لأنها من الناحية الفعلية تبدو كصراعات هجينة يتداخل فيها فواعل خارجيون، لهم مصالح معينة يسعون إلى تحقيقها من خلال هذه الصراعات، وهو الأمر الذي يستدعي فكرة الحرب بالوَكالة التي تشير إلى الميل المتزايد للاعتماد على الفواعل من دون الدول كوكلاء للحرب، فيعرفها مثلاً جرانت هيوز بأنها “تلقي فاعل غير رسمي مساعدة من قوى خارجية للتأثير في ديناميات الصراع”.
وظهر هذا الدور للمليشيات المسلحة في حالات رئيسية بالمنطقة على غرار الحالة الليبية، حيث تم الدفع بأعداد هائلة من المرتزقة من قبل أطراف خارجية. كما شكلت الحالة السورية النموذج الأهم لصراعات الوَكالة، فإيران لم تتقبل سقوط نظام الأسد، وخاصة أن بعض المليشيات المسلحة في معسكر المعارضة تلقت هى الأخرى دعماً من قوى إقليمية مثل تركيا، ودولية مثل الولايات المتحدة، لإسقاطه.
5- التنازع بين خيارى الاستبعاد والدمج الشامل: اكتسبت هذه المعضلة جدليتها من طبيعة الصراعات القائمة في المنطقة العربية، وتنوع خريطة الفاعلين المسلحين من غير الدول، وخاصة مع وجود فاعلين مسلحين ذوي مطالب انفصالية من شأنها إعادة تشكيل الدولة الوطنية، فضلاً عن بزوغ التنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم “داعش”، الذي حاول تقديم نموذج لدولة خاصة تقوم على اقتطاع أراضي من سوريا والعراق. لقد استدعت معضلة الاستبعاد والدمج للفواعل المسلحة أيضاً قضية الشرعية المجتمعية، إذ أن إنجاز برامج لدمج المسلحين يتطلب درجة من الشرعية المجتمعية بموجبها يتقبل المجتمع التعايش مع مجموعات مسلحة كانت ضالعة في أعمال عنف.
مسارات محتملة
تنعكس التعقيدات المشار إليها سابقاً على مستقبل المليشيات المسلحة في المنطقة، حيث يبدو هذا المستقبل مرتهناً بعدد من المسارات المحتملة المتمثلة فيما يلي:
1- المواجهة المسلحة: فثمة منظور واقعي يُعلي من أهمية القوة، وتوظيف الوسائل القمعية في الضغط على التنظيمات المسلحة وتهميشها واستبعادها من السياق السياسي. ولا يمكن إغفال أن هذا المسار سيكون واحداً من المسارات المحتملة بالنسبة لتعاطي الدول مع المليشيات المسلحة، وخاصة أن هذه المليشيات لا تزال مُصِرَّة على تقويض العملية السياسية السلمية في بعض دول المنطقة، ولعل هذا ما يتضح مثلاً في الحالة العراقية وحوادث العنف التي وقعت عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية، التي جرت في 10 أكتوبر الفائت، وكان أبرز هذه الحوادث محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في 7 نوفمبر الجاري، وهى المحاولة التي أشارت أغلب التقارير إلى تورط عناصر مليشيات مسلحة في تنفيذها.
2- الدمج في مؤسسات الدولة: وهو أحد الخيارات الرئيسية المطروحة في التعامل مع المليشيات المسلحة، ويستند هذا الخيار إلى فرضيات الاقتراب المؤسسي Institutional Approach الذي يعطي الأولوية لصياغة إجراءات وقواعد وأشكال مؤسسية تقر بمصالح أطراف الصراع، وبالتالي التكريس لحالة من التعايش السلمي بين كافة الفاعلين. فالفكرة الأساسية هنا أن التنظيمات المسلحة يمكن أن تكون موضعاً للدمج في العملية السياسية عبر آليات متنوعة في مقدمتها توزيع الموارد، وتقاسم المسئولية السياسية.
ويظهر هذا النمط مثلاً في حالة العراق، حيث تم طرح آليات لدمج عناصر “الحشد الشعبي” في المؤسسات العراقية، وخاصة بعد الدور الذي مارسته في العمليات العسكرية ضد “داعش”، ولعل هذا ما كشف عنه رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي في الخطاب الذي ألقاه في 9 ديسمبر 2017، معلناً النصر على “داعش”، ليشيد بدور المؤسسات العسكرية والأمنية، فضلاً عن عدد من القوات والفصائل المسلحة وفي مقدمتها “الحشد الشعبي”.
3- محاولة موازنة نفوذ المليشيات: وهو المسار الأكثر ارتباطاً بالدول التي تعاني من تعاظم نفوذ المليشيات المسلحة على حساب الدولة ومؤسساتها، وربما تكون حالة حزب الله في لبنان النموذج الأهم على هذا المسار، فالحزب ينازع الدولة ومؤسساتها في وظائفها المختلفة، سواء على المستوى العسكري حيث يمتلك السلاح ويتخذ القرارات المنفردة بالمشاركة في صراعات الإقليم، أو حتى على مستوى القرارات الخارجية للدولة، ويظهر ذلك التوجه من ترويج الأمين العام للحزب حسن نصر الله، بين الحين والآخر، للحضور الإيراني في لبنان.
هذا الحضور المتزايد لحزب الله يدفع العديد من الأطراف الخارجية إلى محاولة موازنة نفوذه من خلال دعم المؤسسة العسكرية اللبنانية. فالولايات المتحدة تمثل أحد الداعمين الرئيسيين للجيش اللبناني، فعلى سبيل المثال، تم عقد مؤتمر أمريكي- لبناني لموارد الدفاع في 21 مايو الماضي، بمشاركة كبار القادة من وزارتى الخارجية والدفاع الأمريكيتين والجيش اللبناني، وتضمن المؤتمر مناقشة كيفية دعم الجيش اللبناني اقتصادياً. كما أعلنت السفيرة الأمريكية في بيروت دورثي شيا، في ختام تمرين “الاتحاد الحازم” الذي جمع بين الجيشين الأمريكي واللبناني خلال الفترة بين 17 و28 مايو الماضي، اعتزام بلادها، عبر وزارتى الخارجية والدفاع، تقديم 120 مليون دولار إلى الجيش اللبناني في مجال التدريب والوسائل الدفاعية، إضافة إلى تقديم ثلاثة زوارق خفر سواحل للدوريات، و59 مليون دولار لدعم قدرات الجيش في حماية الحدود الشرقية وضبطها، كما أكدت أن بلادها تواصل النظر بسلطات إضافية تمكنها من تقديم مساعدات استثنائية للجيش اللبناني.
4- الحراك الجغرافي: ويرتبط هذا المسار بالمعطيات الناجمة عن الصراعات القائمة بالمنطقة، وخلق طلب متزايد على المليشيات المسلحة، وخاصة عناصر المرتزقة، وهذا الطلب ربما يدفع إلى التوسع في الأنشطة العسكرية للمرتزقة وذلك من خلال توطيد العلاقة مع شركات الأمن الخاصة، وتبني عمليات للحراك الجغرافي تهدف إلى التمدد في المناطق المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط والتي يمكن أن تكون مسرحاً لأزمات وصراعات في السنوات القادمة. وقد بدأت مؤشرات هذا السيناريو مع تفجر الصراع في إقليم ناغورني كارباخ بين أذربيجان وأرمينيا، إذ كشفت العديد من الدلائل عن الدفع بأعداد كبيرة من المرتزقة السوريين إلى الصراع مقابل أجر مالي يصل، بحسب بعض التقارير، إلى ألفى دولار شهرياً، كما وجهت أرمينيا اتهامات إلى تركيا بإرسال مرتزقة سوريين لدعم حليفتها أذربيجان.
وهناك بعض المناطق المرشحة للحراك الجغرافي للمرتزقة في الفترة القادمة، ربما أهمها أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتنافس العديد من القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في المنطقة، وهو أمر قد يدفع إلى تزايد أنشطة شركات الأمن الخاصة، مثل شركة “صادات” التركية التي تزايد نشاطها في الدول الأفريقية خلال السنوات الماضية، وبالتالي تسعى إلى استقطاب المزيد من المرتزقة لدعم نشاطها هناك. كما أشارت بعض التقارير في الشهور الماضية إلى أن هناك تحركات لنقل بعض المرتزقة السوريين إلى إقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند.
إشكالية مزمنة
إن ما سبق يشير إلى أن مستقبل المليشيات الموجودة في منطقة الشرق الأوسط سوف يبقى ملفاً شائكاً في معظم الأزمات التي تشهدها المنطقة إن لم يكن مجملها، في ظل تقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بها والمنخرطة فيها، وتعثر الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية لها.