يمكن تفسير استمرار التوتر بين إيران والعراق حول الاتفاق الأمني في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في انتهاء المهلة التي حددتها إيران دون تحقيق الهدف الخاص بإبعاد الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة من مناطق الحدود في شمال العراق، واستياء إيران من الإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات العراقية لتنفيذ هذه المهمة، واستمرار التهديدات التي يطلقها المسؤولون العسكريون الإيرانيون ضد بغداد، ومنح الضوء الأخضر لشن حملة إعلامية ضد أداء الأجهزة العراقية في هذا الملف.
وكالة أنباء “مهر” نقلاً عن أحمديان: يجب تنفيذ الاتفاق الأمني بين العراق وإيران بشكل دقيق وكامل
رغم الزيارات المتبادلة والمتتالية التي يقوم بها المسؤولون الأمنيون العراقيون والإيرانيون، وكان آخرها الزيارة التي أجراها مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، في أول أكتوبر الجاري، حيث التقى الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي أكبر أحمديان؛ إلا أن حدة التوتر العالقة بين الطرفين لم تتراجع بعد، ويعود ذلك في قسم منه إلى إصرار إيران على تنفيذ الاتفاق الأمني الذي تم توقيعه بين الطرفين، في 19 مارس الماضي، في أسرع وقت، وتعمدها عدم منح العراق خيارات كثيرة في التعامل مع هذا الملف، رغم إدراكها حجم الصعوبات التي تواجه عمليات تفكيك المعسكرات.
دوافع عديدة
يمكن تفسير استمرار التوتر بين إيران والعراق حول الاتفاق الأمني في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- انتهاء المهلة دون تحقيق الهدف: انتهت المهلة التي منحتها إيران للعراق لتفكيك المعسكرات التي أسستها الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة في شمال العراق، في 19 سبتمبر الفائت، دون أن تنفذ كل المطالب التي تبنتها إيران وسعت إلى تحقيقها عبر الاتفاق الأمني الذي أبرمته مع العراق في 19 مارس الماضي، خلال الزيارة التي قام بها الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني إلى بغداد، حيث تم تحديد ستة أشهر كاملة لتفكيك تلك المعسكرات ونزع أسلحتها ونقل العناصر القاطنة بها إلى مناطق أخرى.
وهنا، فإن تصريحات المسؤولين الإيرانيين في هذا الشأن توحي بأن إيران ترى أن السلطات العراقية لم تتعامل بحسم مع الملف من البداية، وأن فترة الستة أشهر كانت كافية لاتخاذ إجراءات تنفيذية أقوى وأكثر جدية للانتهاء منه، في حين تشير تصريحات المسؤولين العراقيين إلى أن المهمة ليست سهلة، لأسباب عديدة منها أن نزع أسلحة هذه الجماعات يواجه عقبات بعضها يرتبط بنوعية الأسلحة التي تمتلكها تلك العناصر التي تدعي أنها أسلحة خفيفة للدفاع الذاتي فقط، فضلاً عن أن السلطات العراقية لا تسعى بدورها إلى استقطاب عداء تلك الجماعات، على نحو يمكن أن يؤثر على الحالة الأمنية داخل العراق نفسها خلال المرحلة القادمة.
2- التباين حول الإجراءات الأمنية: يبدو أن ثمة خلافاً بين إيران والعراق حول الإجراءات الأمنية التي تتخذها. إذ أعلنت السلطات العراقية أنها سوف تقوم بتصفير نحو 100 كم في عمق الأراضي العراقية باتجاه الحدود مع إيران، مع نشر القوات العراقية على طول الحدود، وحصر الجماعات الكردية في خمسة معسكرات بعد نقلها من مواقعها. وبالفعل، أعلن وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري، في 30 سبتمبر الفائت، أنه تم إبعاد المعارضة الإيرانية عن الشريط الحدود مع إيران الذي أصبح تحت سيطرة القوات العراقية.
لكن هذه الإجراءات لا تبدو كافية في رؤية طهران، التي تتبنى سياسة أكثر تشدداً في هذا السياق، حيث تطالب بنزع أسلحة عناصر تلك الجماعات، فضلاً عن تسليم بعض العناصر التي تتهمها بالمساعدة في تنفيذ عمليات داخل أراضيها، خاصةً خلال فترة الاحتجاجات التي شهدتها إيران منذ منتصف سبتمبر 2022 والتي استمرت أكثر من خمسة أشهر اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني بعد تعرضها للعنف على أيدي عناصر شرطة الأخلاق الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.
3- استمرار التهديدات العسكرية الإيرانية: كان انتهاء المهلة دون تحقيق تلك الأهداف سبباً في تصاعد حدة التوتر بين الطرفين مجدداً، خاصة بعد أن تجددت التهديدات الإيرانية بشن ضربات عسكرية داخل العراق، لاستهداف تلك المعسكرات. ففي 11 يوليو الماضي، قال رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري: “نأمل أن تفي الحكومة العراقية بمسؤوليتها، ولكن إذا مر هذا الوقت وظلت هذه الجماعات مسلحة أو نفذت أي عملية، فمن المؤكد أن عملياتنا ضد هذه الجماعات ستتكرر بقوة أكبر”.
وقد أثارت هذه التهديدات استياء عراقياً ملحوظاً، انعكس في الزيارة “المقتضبة” التي قام بها وزير الخارجية العراقية فؤاد حسين إلى طهران، في 13 سبتمبر الفائت، والتي حرص خلالها على توجيه انتقادات لتصريحات المسؤولين العسكريين الإيرانيين، حيث قال خلال لقائه نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: “ليس من المعقول أن تكون العلاقات بين البلدين ممتازة ويتم تهديد السيادة العراقية وكردستان العراق بالقصف أو شن حملة عسكرية”.
لقاء مقتضب بين فؤاد حسين وأمير عبد اللهيان في طهران
كما قام وفد كردي عراقي برئاسة رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي بافل طالباني بزيارة طهران، قبل ذلك بثلاثة أيام، حيث التقى رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، وكان الاتفاق الأمني وقدرة السلطات العراقية على تنفيذه في المهمة المحددة هو محور المحادثات.
ويبدو أن هذه التحركات العراقية قد دفعت طهران إلى تأجيل اتخاذ قرار بالتدخل عسكرياً لحسم هذا الملف، ومنح بغداد “فرصة أخرى” لإنجاز المهمة. إلا أن هذه الفرصة لا تزيد على أيام قليلة، كما أشار المسؤولون العسكريون الإيرانيون مجدداً. إذ جدد رئيس الأركان محمد باقري تهديداته مرة أخرى، في 23 سبتمبر الفائت، عندما قال إن “إيران تمنح إقليم كردستان والعراق بضعة أيام لنزع أسلحة الأحزاب الكردية وطردها من عموم العراق”، مضيفاً: “لقد كان من المقرر نزع أسلحة هذه الجماعات حتى يوم 19 سبتمبر، لكن ما حدث عملياً خلال 6 أشهر من المهلة، ابتعاد تلك الجماعات قليلاً عن الحدود”.
4- شن حملة إعلامية ضد بغداد: بدا واضحاً أن طهران منحت الضوء الأخضر لوسائل الإعلان بشن حملة إعلامية توجه فيها انتقادات قوية للإجراءات التي تتخذها السلطات العراقية لتنفيذ الاتفاق. وقد بدا ذلك جلياً في تقرير نشره موقع “نور نيوز” التابع للمجلس الأعلى للأمن القومي، في سبتمبر الفائت، والذي وصف فيه تنفيذ السلطات العراقية لبعض التزاماتها الأمنية بأنه “من المفارقات”، في إشارة ضمنية إلى أن السلطات العراقية لا تقوم بتنفيذ ما يكفي من تلك الإجراءات لتطبيق الاتفاق الذي أبرمته مع إيران.
ضغوط متواصلة
رغم أن السلطات العراقية اتخذت خطوات إجرائية عديدة لتطبيق الاتفاق الأمني مع إيران، إلا أن الأخيرة ربما لن تكتفي خلال المرحلة القادمة بذلك. وهنا، يمكن القول إن طهران سوف تعتبر أن تفكيك المعسكرات التي تُؤوي هذه الجماعات ونزع أسلحتها ونقلها إلى أماكن أخرى سوف يكون المرحلة الأولى فقط، حيث ستبدأ إيران بعد ذلك مرحلة أخرى تهدف في النهاية إلى إخراج تلك الجماعات من العراق كلية على غرار ما حدث مع جماعة “مجاهدي خلق” التي اضطرت في عام 2013 إلى الخروج من العراق إلى بعض الدول الأوروبية، ولا سيما ألبانيا.
وهنا، فإن تكرار سيناريو ما حدث في ألبانيا قد يكون مرجحاً، حيث ستبدأ إيران في رصد وتعقب تلك الجماعات داخل العراق، ومحاولة اختراق صفوفها، والعثور على ثغرات أمنية داخلها، وهو التوجه نفسه الذي اتبعته في تعاملها مع ملف المعارضة في ألبانيا التي اضطرت، في 7 سبتمبر 2022، إلى اتخاذ قرار بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران نتيجة هذه التحركات، قبل أن تتوصل إلى تفاهمات أمنية مع طهران حول الممارسات التي تقوم بها تلك الجماعات داخل ألبانيا.