أجرى “ناصر بوريطة” وزير الشؤون الخارجية المغربي، ونظيرته الألمانية “أنالينا بير بورك”، في 16 فبراير 2022، اتصالاً عبر تقنية “الفيديو كونفرانس” تبادلا فيه الحديث حول كيفية تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، في مؤشر هام على استعداد الرباط وبرلين لتجاوز الأزمة الدبلوماسية التي أُثيرت بينهما منذ ما يقرب من عام، بسبب الرفض المغربي للمواقف الألمانية إزاء قضية الصحراء المغربية.
أزمة دبلوماسية
تعود جذور الأزمة الدبلوماسية في العلاقات الألمانية المغربية إلى مارس 2021 عندما دعا “ناصر بوريطة” وزير الخارجية المغربي حكومة بلاده السابقة برئاسة رئيس الوزراء “سعد الدين العثماني” في ذلك الوقت، إلى قطع كافة وسائل التواصل والاتصال بالسفارة الألمانية بالرباط، وأيضاً منظمات التعاون والمؤسسات السياسية الألمانية التي لها علاقة بالسفارة، وتمثلت الأسباب الرئيسية وراء ذلك التوتر في الآتي:
1- الانتقاد الألماني لقرار الإدارة الأمريكية السابقة في عهد “دونالد ترامب” الخاص بالاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء والذي صدر في ديسمبر 2020، وإعراب الخارجية الألمانية في ذلك الوقت عن استيائها من هذا القرار، حيث رأت فيه تشجيعاً للحكومة المغربية على عدم إجراء الاستفتاء الشعبي الذي تطالب به جبهة البوليساريو حول تقرير المصير في إقليم الصحراء، وهو ما اعتبرته المغرب موقفاً ألمانياً سلبياً تجاه قضية الصحراء.
2- رفض المغرب لما قامت به حكومة بريمن الألمانية من إجراءات أشارت إلى دعمها لجبهة البوليساريو عبر رفع عَلَمها على مبنى الحكومة المحلية، بشكل أثار موقف الحكومة المغربية التي اعتبرت ذلك أمراً مناقضاً للموقف الرسمي الذي تتبناه المغرب في تسوية قضية الصحراء، وهو ما دفع الرباط لانتقاد الموقف الألماني بصفة عامة في هذا الخصوص، وأدى إلى توتر العلاقات على النحو الذي شهدته منذ شهر مارس الماضي وحتى حدوث الانفراجة الحالية في هذه العلاقات.
3- توتر العلاقات بسبب ما عدته ألمانيا استبعاداً للمغرب من الاجتماعات الإقليمية والدولية الخاصة بمستجدات الأزمة الليبية، وخاصة عدم توجيه برلين الدعوة للحكومة المغربية لحضور مؤتمر برلين الذي تم عقده في شهر يناير 2020، وفي المقابل دعوة الجزائر، الأمر الذي اعتبرته الرباط تجاهلاً متعمداً من قبل الحكومة الألمانية للدور المغربي المعروف في الأزمة الليبية، حيث تم التوقيع على اتفاق الصخيرات عام 2015 بالمغرب، واستضافتها عدداً من جولات التفاوض والحوار بين الأطراف الليبية داخل المغرب، وهو ما دفع المغرب لرفض الممارسات الألمانية ضدها، وأصرت على تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية في إطار من الندية والاحترام المتبادل.
مؤشرات التقارب
تشهد العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المغربية وألمانيا تقارباً ملحوظاً في الوقت الراهن، ومن المؤشرات الدالة على ذلك ما يلي:
1- الاتفاق على تبادل السفراء بين الرباط وبرلين: حيث تم الاتفاق بين وزيري الخارجية المغربي والألماني على إعادة المغرب لسفيرتها لدى ألمانيا “زهور العلوي” والتي تم استدعاؤها في مايو الماضي؛ بسبب الموقف الألماني الذي انتقد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء، وكذلك تعيين ألمانيا سفيراً لها في المغرب، حيث وقع الاختيار على تعيين “روبرت دولغر” مفوض الشؤون الإفريقية بوزارة الخارجية الألمانية سفيراً جديداً لبرلين في الرباط خلفاً للسفير السابق “غوتز شميدت بريم”؛ وهو اختيار أشرفت عليه كبيرة الدبلوماسية الألمانية، في إشارة هامة إلى الحرص الألماني على تعزيز علاقاتها الدبلوماسية بالمغرب بعد فترة زمنية طويلة من توتر العلاقات الثنائية بينهما.
2- إطلاق حوار استراتيجي مغربي ألماني: فخلال الاتصال الهاتفي الأخير بين وزير الخارجية المغربي ونظيرته الألمانية، تم الاتفاق على إجراء حوار استراتيجي بغرض تجاوز ما أطلقا عليه “سوء التفاهم”، وذلك بغرض تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين خلال الفترة القادمة بناء على التنسيق المشترك والاحترام المتبادل، والترحيب بتبادل الرسائل بين العاهل المغربي “محمد السادس” والرئيس الألماني “فرانك فالتر شتاينماير” في ضوء الحفاظ على المصالح المشتركة بين الدولتين.
3- إشادة برلين بالثقل السياسي للمغرب: ففي شهر ديسمبر الماضي تبادلت الرباط وبرلين بعض الإشارات الإيجابية الدالة على التقارب الألماني المغربي، حيث اتخذت برلين خطوات إيجابية بالتعبير عن الثقل السياسي للمغرب باعتباره شريكاً موثوقاً فيه بين الشمال والجنوب، ودعوة الرئيس الألماني “شتاينماير” الملك “محمد السادس” لزيارة ألمانيا من أجل تحقيق شراكة استراتيجية بين الدولتين، وهو ما اعتبرته المغرب مبادرة ألمانية لتصحيح توجهات سياستها الخارجية إزاء الرباط، والتمهيد للدخول في علاقات دبلوماسية متوازنة تقوم على احترام السيادة المغربية على كافة أراضيها وخاصة إقليم الصحراء.
دلالات متعددة
يكتسب التقارب الحالي في العلاقات المغربية الألمانية أهمية خاصة؛ نظراً لما يحمله هذا التقارب من دلالات سياسية هامة لكل منهما، وخاصة في ظل تبني برلين سياسات خارجية بعد تولي “أولاف شولتز” منصب المستشار الألماني خلفاً لـ”أنجيلا ميركل” تقوم على الحفاظ على الانخراط الألماني في القضايا المثارة بمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، وذلك على النحو التالي:
1- تغير نوعي ألماني تجاه قضية الصحراء: يحمل التقارب الألماني المغربي الحالي دلالة سياسية هامة على التغير النوعي الحاصل في توجهات السياسة الخارجية الألمانية إزاء قضية الصحراء المغربية، ومن المؤشرات الدالة على ذلك إرسال الرئيس الألماني “شتاينماير” رسالة إلى العاهل المغربي في مطلع العام الجاري أكد فيها أن مبادرة الحكم الذاتي في إقليم الصحراء التي طرحتها الرباط عام 2007 تعبر عن الموقف الرسمي المغربي لحل قضية الصحراء تتسم بالمصداقية والأهمية.
وكذلك تم التأكيد على الدعم الألماني لمهمة المبعوث الأممي “ستيفان دي ميستورا” لإقليم الصحراء المغربية، والإشادة بقرار مجلس الأمن رقم (2602) عام 2021 الذي يتم بموجبه تجديد بعثة الأمم المتحدة “المينورسو” في إقليم الصحراء حتى أكتوبر 2022، وهو ما يتعارض مع مطالب البوليساريو ومن ورائها الجزائر التي تدعمها، وذلك في إطار تسوية قضية الصحراء على أساس التوصل إلى حل سياسي شامل وعادل يحظى بقبول كافة الأطراف، وأن مبادرة الحكم الذاتي تسهم في التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وهو ما يعبر عن تغير كبير في الموقف الألماني بشكل تسعى من خلاله برلين لتحسين علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب.
2- تعظيم المكاسب الاقتصادية: تسعى سياسة ألمانيا الخارجية لتعزيز تقاربها السياسي مع المغرب من أجل تحقيق بعض المكاسب على المستوى الاقتصادي، وذلك من خلال تسهيل المزيد من الاستثمارات الألمانية عبر الشركات الألمانية العاملة في السوق المغربية، حيث يوجد حوالي 300 شركة ألمانية، ومرجع ذلك إلى نظرة ألمانيا إلى المغرب باعتبارها سوقاً واعدة أمام المنتجات والسلع الألمانية، ومعبراً هاماً أمام الصادرات الألمانية إلى دول غرب إفريقيا؛ نظراً لأن هذه الدول بها تعداد سكاني عالٍ من المتوقع أن يصل إلى حوالي مليار شخص خلال فترة زمنية من 20 إلى 30 سنة تقريباً.
وهنا تسعى ألمانيا لرفع نسبة التبادل التجاري مع دول غرب إفريقيا التي لم تتعدَّ 1% فقط من حجم التجارة الخارجية لألمانيا مع باقي دول العالم، وهو ما يدفع ألمانيا للولوج إلى هذه الأسواق عبر البوابة المغربية. وفي المقابل، تُعد ألمانيا من أبرز الدول المانحة للمغرب عبر برامج التعاون الثنائية، والتي بلغت حوالي 1.2 مليار يورو في عام 2020، كما تحتل ألمانيا المركز السابع في الميزان التجاري المغربي لعام 2019، حيث استوردت ألمانيا في العام نفسه بضائع بقيمة 1.4 مليار يورو من المغرب، في حين سجلت الصادرات الألمانية إلى المغرب حوالي 2.2 مليار يورو، الأمر الذي يشجع الدولتين على إنهاء التوتر السياسي القائم، وتعزيز التعاون الثنائي المشترك بما يعود بالنفع على كلتا الدولتين.
3- شراكة استراتيجية جديدة: يُشير التقارب الحاصل بين المغرب وألمانيا إلى الحرص الألماني على إقامة شراكة استراتيجية مع الجانب المغربي لتعزيز الدور والنفوذ الألماني في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي، بما يُسهم في الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لألمانيا التي تسعى لتحقيق هذه الشراكة انطلاقاً من تعزيز التعاون والتنسيق المشترك مع الرباط في بعض القضايا والملفات الهامة، وخاصة حماية البيئة وسياسة المناخ والطاقة المتجددة، وهي ملفات تحظى باهتمام ألماني مغربي مشترك في الوقت الراهن، وتحرص ألمانيا في الوقت الراهن على استخدام مقاربة دبلوماسية المناخ كمدخل هام لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية ومنها المملكة المغربية، وهو ما أكدته وزيرة الخارجية الألمانية “بيربوك” خلال زيارتها الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط خلال الفترة من 9 إلى 12 فبراير الجاري.
4- الحفاظ على الأمن القومي لألمانيا: يأتي التقارب الألماني مع المغرب في الوقت الراهن في ظل حرص الحكومة الألمانية الحالية برئاسة “أولاف شولتز” على تعزيز تعاونها مع الحكومة المغربية في الملفات الأمنية على وجه التحديد وذلك تجنباً للتهديدات الأمنية المحتملة بسبب تدفقات الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط إلى ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن ألمانيا تبدي اهتماماً بمسألة مكافحة الإرهاب وضبط تدفقات الهجرة غير الشرعية إليها في ظل ما تواجهه من تحديات أمنية متزايدة بسبب ذلك، كما أن برلين تدرك أهمية الدور المغربي في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة عبر التعاون الاستخباراتي والأمني المشترك.
5- إحياء التحالف بين الشمال والجنوب: حيث تدرك ألمانيا أهمية التقارب مع المغرب نظراً لأنها تعد حلقة الوصل بين الشمال والجنوب، وذلك في ضوء الثقل السياسي والاقتصادي الذي تتمتع به المغرب ذات الموقع الاستراتيجي الهام للربط بين القارتين الإفريقية والأوروبية.
تجاوز الخلافات
خلاصة القول، يعكس التقارب الألماني المغربي الحالي إدراك الحكومة الألمانية الحالية لأهمية الحفاظ على علاقات دبلوماسية مميزة مع المملكة المغربية عبر تجاوز الخلافات التي أدت إلى توتر هذه العلاقات بينهما خلال العام الماضي، وذلك تعزيزاً للدور الألماني في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا. وفي المقابل، يصب ذلك في مصلحة دعم الموقف المغربي إزاء قضية الصحراء وبما يمكن توظيفه لتسوية هذه القضية بما يتماشى مع الرؤية المغربية في هذا الخصوص.