بمجرد أن يطرأ صراع أو تندلع أزمة في المنطقة تتجه الأنظار مباشرة إلى “التفكيك” كمدخل لعملية التسوية، فأصبح الدارج أو القاسم المشترك فيما بين خرائط الطريق لمعظم التسويات التي تشهدها المنطقة هو طرح حلول من قبيل (الفيدرالية – المحاصصة الطائفية – المحاصصة الجهوية). وعلى الرغم من أن معظم القرارات الأممية تؤكد على وحدة الدول التي تشهد صراعات وأزمات في الإقليم، وترفض مبدأ التقسيم، إلا أن المعالجات التي تنتهجها البعثات الأممية ويدعمها بعض الأطراف المنخرطة في تلك الصراعات تقوم على أن هناك صعوبات تحتم فض التشابكات القائمة بين أطراف الصراع على السلطة والجغرافيا وفقاً لهذا المنطق. وبناءً على الخبرة الإقليمية، لم تعكس أية تجربة إنجازاً يذكر في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال أفضت تجربة المحاصصة الهجين ما بين الطائفية والإثنية (السنة – الشيعة – الأكراد) في العراق إلى استدامة الصراع في أحيانٍ عدة، بل وربما امتدت هذه الذهنية إلى صراع داخل المكون الواحد (صراع شيعي- شيعي) أو تنافس داخلي كردي بين الحزبين الكرديين، أو تصدع في المكون السني.
نتائج عكسية
حينما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو كل من أفغانستان (2001) والعراق (2003) بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، تمثلت إحدى الدعايات الأساسية الأمريكية في تحرير شعوب هذه الدول من النظم الاستبدادية والمتطرفة، وطرحت آنذاك العديد من خرائط التقسيم، واحدة منها تبني فيها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن خطة لتقسيم العراق إلى ثلاث دول حينما كان سيناتور إبان غزو العراق. ورغم فشل عملية التقسيم، ظل بايدن مؤمناً بالفكرة ذاتها. وفي عام ٢٠١٤، وعندما كان نائباً للرئيس في إدارة باراك أوباما طرح من جديد فكرة التقسيم الفيدرالي على أساس منح المكونات الرئيسية الثلاثة (السنة – الشيعة- الأكراد) إقليماً للحكم الذاتي، لكن في الأخير وبعد عشرين عاماً على الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان ثبت فشل تلك الدعايات والمشروعات، وعادت حركة “طالبان” إلى السلطة في كابول بدعم وقبول أمريكي بعد اتفاق السلام الذي أبرم بين الطرفين في فبراير 2020.
واقع مختلف
لم تتغير ذهنية التفكيك، وفقاً للأطروحات الخاصة بالتسويات في معظم الصراعات الحالية. ففي اليمن، طرح الخيار الفيدرالي، ومن الجائز القول أنه لم ينضج بعد لأن الأطراف تسعى إلى هندسة نموذج مختلف عن ما طرح في الحوار الوطني من توزيع للأقاليم. وفي واقع الأمر، لن يتحقق هذا النموذج بهذه السهولة، حيث يرفض إقليم حضرموت الانضمام إلى مظلة الجنوب. وعلى التوازي، تعمل البعثة الأممية بذهنية تفكيك الملفات، وليس الفصل بين الملفات، ففي مسار استكهولم طرح نموذج خفض التصعيد ليشمل صنعاء ومناطق الساحل الغربي، وفي حين فشل هذا النموذج بل وزاد عليه الصراع في مأرب، يتحول المسار تدريجياً نحو الأخيرة.
فضلاً عن ذلك، تؤكد كافة القرارات الأممية على رفض تقسيم ليبيا، وعلى أن وحدة الدولة تبقى أولوية، لكن جوهر عملية التسوية التي قادتها الأمم المتحدة انطوى جوهرياً على المحاصصة بين الأقاليم الثلاثة (طرابلس – برقة – فزان). ورغم أن البعثة تشير إلى أن عملية المحاصصة الإقليمية لا تعدو أكثر من كونها جانباً إجرائياً لتمثيل كافة الأطراف يقود في الأخير إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن من الناحية الواقعية تحولت حصص التمثيل الإقليمي في الحكومة إلى قاعدة سياسية، وترسخ المبدأ في حد ذاته، بما يتعاطى مع التكتلات السياسية في الغرب، والأوزان القبلية في الشرق والجنوب.
وفي سوريا، تبدو جغرافيا الصراع هى الحاكم في نفوذ الأطراف حالياً ما بين مناطق يهيمن على أغلبها الأكراد، ومناطق تخضع لنفوذ النظام، وبالتالي فإن منظور السيطرة والنفوذ الميداني أصبح محدداً في أية تسوية محتملة في المستقبل.
دوافع عديدة
تتبنى الأطراف التي تدعم هذه التسويات على هذا النحو مبررات عديدة لتسويقها، يتمثل أبرزها في:
1- احتواء تداعيات تعقُد الأزمات: ترى تلك الأطراف أنه لا يمكن التعامل مع ملفات الصراعات والأزمات جملة واحدة، لاسيما أنها وصلت إلى درجة من التعقيدات والتشابكات، التي يصعب معها طرح تصور مثالي لها، وهو ما يبدو جلياً في الحالة السورية، حيث أن تراجع الصراع المسلح لم ينه الأزمات القائمة، على غرار أزمة إدلب، والعلاقة بين النظام والفصائل المسلحة والأكراد.
2- تبني آلية التسوية التدريجية: وفقاً لهذه المقاربة، فإن المستهدف ليس هو التفكيك كغاية، ولكن التدرج في الحلول. وبمعنى آخر، فإن الإصرار من البداية على الوصول إلى تسوية شاملة قد يؤدي في النهاية إلى عواقب عكسية، لأنه لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي يفرضها تشابك وتعقد مصالح القوى المعنية بالصراع والمنخرطة فيه.
3- التأقلم مع طبيعة الصراعات القائمة: إن المستهدف، طبقاً لذلك، هو خفض حدة الصراعات، في ظل صعوبة وقفها تماماً. ومن هذا المنطلق، اتبعت قوى عديدة، على غرار روسيا، آلية “خفض الصراعات” في مناطق مختلفة في سوريا، مثل درعا، حيث تمكنت على سبيل المثال، في 25 أغسطس الماضي، من الوصول إلى هدنة بين النظام السوري والفصائل المسلحة، وضعت حداً للمواجهات العنيفة التي اندلعت بين الطرفين في هذه الفترة.
4- تزايد تأثير جماعات المصالح: تعكس هذه التصورات توجهات بعض الأطراف المنخرطة في الصراعات، على نحو يبدو جلياً في الصراع الليبي، حيث تحرص جماعات المصالح من تيارات ومؤسسات مثل شركات النفط العالمية تحديداً على دعم أطراف محلية مختلفة في الصراع، بشكل يزيد من الضغوط التي تمارس في هذا الصدد، وهو ما يفرض تداعيات مباشرة على مسار عملية الانتقال السياسي.
توجه قائم
انطلاقاً من ذلك، من المتصور أن ذهنية التفكيك لا تتمثل في عملية تفكيك الدول التي تشهد صراعات وأزمات، لكنها بشكل عام تتعاطى مع آليات “التسوية بالقطعة”، و”الحلول المناطقية”، و”المحاصصة”، كمدخل للوصول إلى توافق انتقالي. لكنها قد تكون أحد الأسباب الرئيسية التي تقود إلى عواقب وخيمة في ظل الخبرات المتراكمة. على سبيل المثال، تؤكد أطراف الأزمة الليبية أن فشل العملية السياسية الحالية التي استندت إلى المحاصصة سيقود إلى ما هو أسوأ من عملية التفكيك مع الوضع في الاعتبار أن ليبيا شهدت وجود ثلاث حكومات في وقت واحد، وحكومتين في مرحلة الانقسام. وفي العراق، ترجح أغلب التقديرات المحلية والدولية أن الماكينة السياسية ستقود في الأخير إلى إعادة إنتاج ما كانت عليه الأوضاع قبل المرحلة الانتقالية، وفق ديناميكية الواقع الحالي، لأن القواعد الجوهرية الحاكمة لم تتغير.
ومن هنا، ترى اتجاهات عديدة أن ذهنية التفكيك ما زالت قائمة ولا يمكن استبعادها على الأقل في المرحلة الحالية، رغم كل الجهود التي تبذلها أطراف وقوى عديدة للتوصل إلى تسويات شاملة لتلك الصراعات باعتبار أن هذا النمط الأخير كفيل بتحقيق الاستقرار في دول الصراعات.