أثارت الانتخابات التشريعية الألمانية، التي أجريت في 26 سبتمبر الفائت، وانتهت بتصدر الحزب الاشتراكي الديمقراطي، تساؤلاً مركزياً حول مستقبل السياسة الخارجية الألمانية تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد انجيلا ميركل. فخلال السنوات الماضية، صاغت برلين سياسة خارجية تجاه المنطقة تعتمد على عدد من المحددات الرئيسية ربما أهمها الارتباط بين ما يجري فيها وبين المصالح الألمانية، وهو ما يعني صعوبة الانعزال الألماني عن قضايا المنطقة، ولعل هذا ما أكدته الأزمات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2011 والتي أنتجت تهديدات ممتدة للدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، وخصوصاً عبر موجات اللاجئين المتدفقة إلى أوروبا، فضلاً عن التهديدات الإرهابية المتصاعدة التي صاحبت ظهور تنظيم “داعش”.
انخراط مباشر
اتبعت المستشار الألمانية المنتهية ولايتها انجيلا ميركل، في السنوات الماضية، سياسة خارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط تقوم على الانخراط المتزايد في قضاياها، وهو الأمر الذي اتسق مع تصريحات الرئيس الألماني السابق يواخيم غاوك، أثناء مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2014، حينما أكد أنه على ألمانيا الاضطلاع “بدور فعّال في الشرق الأوسط لاسيما وأنها تمتلك مقومات سياسية وعسكرية واقتصادية لذلك”، وأضاف: “يجب وضع نهاية لسياسة ضبط النفس، وزيادة المشاركة الدولية لألمانيا في العالم. فلا يمكن لألمانيا أن تستمر في العمل بالسياسة السابقة، وماضيها لا يعفيها من عمل أى شىء، والاستمرار في دور المتفرج، ولهذا يجب أن تقدم مساهمتها في حل النزاعات الدولية”.
وارتبط الانخراط الألماني في المنطقة بعدد من الملفات الرئيسية، حيث شكلت العلاقات مع دول المنطقة مصلحة رئيسية بالنسبة لبرلين نظراً لدورها في تعزيز الاقتصاد الألماني. إلى جانب ذلك، عملت برلين على تحجيم التهديدات القادمة من المنطقة سواء كانت الإرهاب أو تدفق اللاجئين، كما سعت إلى التأكيد على استقلالية تحركاتها عن الدور الأمريكي بالمنطقة، ولعل هذا ما اتضح من الموقف الألماني المغاير من الملف النووي الإيراني، ومعارضة برلين الانسحاب الأمريكي، أثناء إدارة دونالد ترامب، من الاتفاق النووي مع إيران.
تغير محدود
أفضت نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية إلى تصاعد حدة الاستقطاب والتنافس على تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة، ولاسيما بعد تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي. وفي هذا الإطار، ذكر مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمنصب المستشار أولاف شولتز، في 27 سبتمبر الفائت، أن “الحزب المسيحي الديمقراطي والاتحاد الاجتماعي المسيحي لم يخسرا أصواتاً فحسب، بل تلقيا رسالة من المواطنين مفادها أنه لا ينبغي أن يكونا في الحكومة بل في المعارضة”، مضيفاً أن “الناخبين الألمان يريدونه مستشاراً مقبلاً”. ولكن في مقابل ذلك الموقف، أكد مرشح الحزب المسيحي الديمقراطي لمنصب المستشار أرمين لاشيت قدرته على تشكيل ائتلاف حكومي يقود البلاد في المرحلة القادمة رغم إقراره بالهزيمة التي منى بها الحزب.
وبالرغم من أن هذه المعطيات يحتمل أن تؤثر على السياسة الخارجية الألمانية، وخاصة إذا نجح أولاف شولتز في تشكيل الحكومة، فمن المرجح ألا تتغير السياسة الألمانية تجاه منطقة الشرق الأوسط بصورة جذرية، وذلك في ضوء عدد من المحددات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- ممارسة دور الوسيط في الصراعات: وهو دور لن يتراجع كثيراً في مرحلة ما بعد ميركل، لاسيما أن صراعات الشرق الأوسط انعكست بالسلب على الدول الأوروبية، ويتجلى هذا الدور في الحالة الليبية، حيث سعت برلين إلى صياغة دور الوسيط السياسي في تسوية الصراع الليبي، ولعل هذا ما اتضح من استضافة مؤتمر برلين في 19 يناير 2020 لبحث سبل إرساء السلام في ليبيا ووقف إطلاق النار.
ولم تتوقف ألمانيا عن هذا الدور، ويرجح أن هذا الدور سيستمر حتى بعد انتهاء ولاية ميركل، ويدلل على ذلك تصريحاتها، في مؤتمر صحفي مشترك في برلين في أول أكتوبر الجاري، مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، حينما أكدت أن “ألمانيا ستظل ملتزمة بدعم ليبيا حتى بعد التغييرات الحكومية في برلين”، وأضافت: “بوسعي أن أؤكد لكم أنه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة أيضاً، حتى لو كان لدينا الآن انتقال من حكومة إلى أخرى، فإن القضية الليبية ستظل أولوية بالنسبة لألمانيا… لذلك ستكون هناك استمرارية”.
2- تزايد تأثير المصالح الاقتصادية: فالسياسة الخارجية للدول تتمحور حول المصالح، وطالما استمرت المصالح فإن توجهات السياسة الخارجية عادة لا تتغير، وهى فرضية حاضرة في استشراف مستقبل السياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق الأوسط بعد انتهاء ولاية ميركل. فالمنطقة ستظل مهمة للمصالح الاقتصادية الألمانية، فعلى سبيل المثال، تشكل المنطقة سوقاً هامة لاستيراد الأسلحة الألمانية، حتى أن وزارة الاقتصاد الألمانية أعلنت، في 3 يناير 2021، موافقة برلين خلال عام 2020 على تصدير أسلحة بقيمة 1.16 مليار يورو إلى دول في الشرق الأوسط.
كما يمثل نفط المنطقة محدداً هاماً في السياسة الخارجية الألمانية، ولذا فإن وساطة ألمانيا في صراعات المنطقة، على غرار الصراع الليبي، تستهدف، في جانب منها، تحقيق الاستقرار الداخلي وبالتالي الوصول بإنتاج النفط إلى مستواه الطبيعي، وهو الأمر الذي يسهم في الحفاظ على أسعار النفط عالمياً. فضلاً عن ذلك، فإن هناك بعض المؤشرات التي تعكس رغبة ألمانيا في الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في بعض دول المنطقة سواء عبر المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، أو حتى من خلال الحصول على بعض التعاقدات في القطاعات الاستراتيجية، ولعل هذا ما أكد عليه السفير الألماني لدى ليبيا ميخائيل أونماخت، أثناء لقاءه مع رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط الليبية مصطفى صنع الله، في 29 سبتمبر الفائت، حيث ذكر أن “الشركات الألمانية المتخصصة في مجال النفط والطاقة عازمة على الاستثمار في ليبيا، خاصة بقطاع النفط كونه أهم قطاع ومصدر الدخل الرئيسي بها”.
3- التعاون المحسوب مع فرنسا: شهدت السنوات الماضية تطوير فرنسا وألمانيا صيغاً للتعاون بينهما في الاقتراب من قضايا الشرق الأوسط، ويرجح أن يستمر هذا التعاون ولكنه سيظل تعاوناً محسوباً في ظل التباينات العالقة بين الطرفين تجاه بعض القضايا بالمنطقة، وتعد الحالة اللبنانية نموذجاً هاماً في هذا الصدد، فهناك خلافات بين ألمانيا وفرنسا حول التعاطي مع حزب الله، حيث تُصنِّف ألمانيا الحزب بجناحيه العسكري والسياسي كتنظيم إرهابي، وهو الأمر الذي ارتبط بحظر كافة أنشطة الحزب على أراضيها، والعمل على تفكيك المؤسسات المرتبطة به، وشبكات الدعم التي يحظى بها. فيما تُقصِر فرنسا هذا التصنيف على الجناح العسكري، وهو الموقف الذي يكتسب وجاهته من طبيعة الدور الفرنسي في لبنان، حيث تتعامل فرنسا مع حزب الله كفاعل سياسي هام في المشهد، ويتعين التواصل والحوار معه، وبالتالي، فإن باريس ترى أن تصنيف الجناح السياسي للحزب، كتنظيم إرهابي، سيكون له تأثير سلبي على الأوضاع في لبنان والدور الفرنسي هناك.
ولكن مع ذلك، لن تتراجع برلين كثيراً عن التعاون مع فرنسا في الملف اللبناني وخصوصاً فيما يتعلق بالمساعدة في تخفيف حدة الأزمات داخل لبنان، فعلى سبيل المثال، أعلنت برلين، في 9 أغسطس 2020 عقب انفجار مرفأ بيروت، عن تقديم مساعدات إضافية للبنان بقيمة 10 ملايين يورو.
4- مواجهة استمرار التهديدات الإرهابية: ستظل التهديدات الإرهابية القادمة من الشرق الأوسط مُحرِّكاً هاماً للسياسة الخارجية الألمانية في مرحلة ما بعد ميركل. صحيح أن التنظيمات الإرهابية في المنطقة تعرضت لخسائر كبيرة خلال السنوات الماضية، ولكن ذلك لا ينفي أنها ما زالت تفرض تهديدات لا تبدو هينة. فعلى سبيل المثال، لا يزال تنظيم “داعش” قادراً على تنفيذ هجمات في العراق وسوريا. كما أن “ولاية خراسان”، التابعة لـ”داعش”، وجدت في سيطرة حركة “طالبان” على السلطة مُحفِّزاً لتعزيز حضورها داخل أفغانستان والترويج لـ”داعش” كتنظيم يدافع عن “الإسلام” في مواجهة حركة “طالبان” التي وصلت إلى السلطة عبر صفقة مع القوى الغربية، حيث تصف الدعاية “الداعشية” حركة “طالبان” بـ”المليشيات الموالية للأمريكيين”.
5- تحجيم التهديد النووي الإيراني: ليس من المرجح أن يتراجع الاهتمام الألماني بالملف النووي الإيراني في مرحلة ما بعد ميركل. وعليه، يتوقع أن تتواصل التحركات الألمانية للتوصل إل اتفاق جديد مع طهران وخاصة مع ارتباط هذه التحركات بالمصالح الألمانية، والأوروبية بشكل عام، حيث ترى برلين أن الاتفاق قد يجعل إيران حريصة على التوقف عن تهديد الأمن الأوروبي، ويساعد أيضاً على المحافظة على الاستقرار في منطقة الخليج التي لا تزال منطقة مهمة، بشكل كبير، لإمدادات الطاقة، فضلاً عن أن الاتفاق يمكن أن يمثل مدخلاً لحل الصراعات في الشرق الأوسط على النحو الذي يقلل من تدفق المزيد من اللاجئين إلى أوروبا.
وفي سياق متصل، يعتبر الملف النووي فرصة سانحة لبرلين للتأكيد على تمايزها عن واشنطن، إذ ترى ألمانيا أن سياسة الضغط والعزلة، التي تتبناها واشنطن تجاه طهران، لم تحقق الكثير من الفوائد، ومن ثم، ربما يكون من الأجدى توظيف أدوات التفاوض والدبلوماسية والحوافز الاقتصادية کأنسب وأفضل الأدوات لتحقيق الهدف نفسه، الذي تسعى إليه واشنطن، وهو منع إيران من امتلاك القنبلة النووية.
6- إدارة العلاقات مع تركيا: رغم التوترات التي اندلعت، بين الحين والآخر، في السنوات الماضية بين برلين وأنقرة، فقد ظلت هناك مساحة للتنسيق البراجماتي بينهما، وخاصة مع رؤية انجيلا ميركل لتركيا كطرف هام ينبغي التعاون معه بخصوص حل العديد من المشاكل التي تهم أوروبا، ومع أنها تمر بالعديد من المشكلات مع تركيا من حين إلى آخر، إلا أنها تسعى إلى تأسيس علاقات محورها التعاون مع تركيا خصوصاً في مجالى الأمن والاقتصاد، بالإضافة إلى أهمية التفاهم مع تركيا في ملف اللاجئين، كما حاولت برلين تقليل حدة انتقاداتها المعلنة للسياسة التركية في المنطقة.
ويبدو أن هذه المتغيرات لن تتراجع كثيراً في المرحلة القادمة، لاعتبارات براجماتية وأخرى متعلقة بالتركيبة السياسية الألمانية. فمن جهة أولى، لا تزل التهدئة مع أنقرة مهمة بالنسبة للمصالح الألمانية. ومن جهة ثانية، يمكن أن يؤثر مجتمع الشتات التركي في التوجهات الألمانية تجاه أنقرة ويضع قيوداً ما على أى محاولات للتصعيد أو القطيعة مع أنقرة، فوفقاً لبعض التقديرات يوجد أكثر من ثلاثة ملايين تركي يعيشون في ألمانيا.
7- سياسة تنظيمية تجاه اللاجئين: ليس من المحتمل أن يشهد الموقف الألماني تجاه ملف اللاجئين تغيرات جذرية، وأقصى ما يمكن أن يحدث يتعلق بتبني إجراءات تنظيمية تجاههم، لاسيما أن سياسة ميركل إزاء اللاجئين واجهت في بعض الأحيان انتقادات داخلية من قبل بعض القوى السياسية التي وصفتها بسياسة “الحدود المفتوحة” التي أفضت إلى تزايد أعداد اللاجئين بصورة كبيرة داخل ألمانيا.
وعليه، لن يحدث تغير كبير في السياسة الألمانية تجاه ملف اللاجئين، ويعزز من هذه الفرضية أن القوى السياسية المتصدرة للانتخابات التشريعية تعبر عن سياسة منفتحة تجاه اللاجئين. فعلى سبيل المثال، يؤيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي تعدد الجنسيات للمواطنين، ويدعم أيضاً توسيع نطاق لم شمل الأسرة مرة أخرى بالنسبة للمهاجرين، ولذا يدعم الحزب، مثلاً، السماح للأشقاء بالانضمام إلى اللاجئين القُصَّر غير المصحوبين بذويهم والقدوم إلى ألمانيا.
وفي السياق ذاته، فإن تصاعد حضور المهاجرين في مشهد الانتخابات التشريعية الأخيرة ربما يُحفِّز ألمانيا على تبني سياسة غير عدائية تجاه اللاجئين، فوفقاً للعديد من التقديرات بلغ عدد النواب من ذوي الأصول المهاجرة عقب انتخابات “البوندستاج” 83 نائباً، بعد أن كان 58 في الدورة التشريعية السابقة.
هذه الاعتبارات في مجملها توحي في النهاية بأن خروج ميركل من المشهد السياسي الألماني لن يفرض، في الغالب، تداعيات مباشرة على اتجاهات السياسة الخارجية الألمانية إزاء القضايا الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.