أدوات الفوضى:
التوظيف السياسي للمرتزقة في صراعات الإقليم

أدوات الفوضى:

التوظيف السياسي للمرتزقة في صراعات الإقليم



تحولت جماعات المرتزقة (المقاتلون بالأجر) إلى طرف مباشر في العديد من الصراعات التي شهدتها ليبيا وسوريا وإقليم ناجورني قره باغ. ولكن في الحالتين الأخيرتين، خضعت عملية نشر هذه المجموعات لاتفاقيات القوى المنخرطة في عمليات خفض التصعيد والتسوية. فخلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 24 سبتمبر الجاري، أكد رئيس أذربيجان إلهام علييف انتهاء الصراع مع أرمينيا الذي دام أكثر من ثلاثة عقود، ومع التسوية التي كانت كل من روسيا وتركيا أطرافها، انتهى الدور الرئيسي لمجموعات المرتزقة. بينما أعلن الكرملين، في 27 سبتمبر الجاري، أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان سيبحثان في منتجع سوتشي ملفى سوريا وأفغانستان، وعلى الأرجح ستتناول المباحثات حول الملف السوري وضع “إدلب” المتوتر حالياً، والذي خضع باستمرار لمداولات بين الطرفين في سوتشي خلال الأعوام الماضية.

ورغم أن الكرملين لم يذكر أنه سيتم تناول الملف الليبي في مباحثات سوتشي، إلا أن مراقبين ليبيين يعتقدون أنه سيفرض نفسه على تلك المباحثات، بغض النظر عن الإعلان، خاصة أن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على هامش فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشير إلى أولوية الملف في المرحلة الحالية، بل إن هناك تلميحات بأن روسيا تنتظر مبادرة تركية لجدول زمني تتضح فيه طبيعة إخلاء المرتزقة، بالإضافة إلى إشارة هامة في حديث لافروف عن أن هناك نوايا لسحب المرتزقة لكن دون التأكد من ما إذا كان ذلك ممكناً قبل تاريخ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القريبة من عدمه. وفي السياق ذاته، بدا أن هناك تحولاً في المشهد الليبي يفرضه توجه الجانبين الروسي والتركي نحو المناطق التي كانت مسرحاً حصرياً للنفوذ الفرنسي في السابق لاسيما في منطقة الساحل التي وصلت إليها جماعات المرتزقة.

متغيرات عديدة

يمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة سوف تساهم في ضبط التفاعلات بين القوى المنخرطة في الصراعات حول هذا الملف خلال المرحلة القادمة، ويتمثل أبرزها في:

1- تزايد الاهتمام الدولي بعواقب انتشار المرتزقة: أبدت قوى دولية عديدة اهتماماً خاصاً بملف المرتزقة، لاسيما في هذا التوقيت تحديداً الذي يسبق إجراء بعض الاستحقاقات السياسية على غرار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا، وهو ما انعكس في زيارة الجنرال ستيفن تاونسند قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” إلى الأخيرة في 28 سبتمبر الجاري، بعد يوم واحد من زيارة وفد عسكري بريطاني رفيع المستوي، وكلاهما التقى الأطراف نفسها تقريباً وهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، كما ركزا على ملف إجلاء المرتزقة وإنهاء الوجود الأجنبي فى ليبيا، بالإضافة إلى تعزيز دور اللجنة العسكرية المشتركة (5+5).

2- ارتباط الملف بخريطة المرشحين للانتخابات الليبية: يبدو جلياً أن هناك تبايناً في توجهات كل من موسكو وأنقرة إزاء دعم المرشحين للانتخابات الرئاسية الليبية. فوفقاً لاتجاهات عديدة، ربما تكون روسيا أقرب إلى دعم سيف الإسلام القذافي كمرشح محتمل، وقد يكون هذا الخيار بالنسبة لتركيا أفضل إذا اتجهت لدعم مرشح ينتمي لقوى الإسلام السياسي، من أن تدعم روسيا علانية قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر. وفى كل هذه الأحوال، فإن ملف المرتزقة سيرتهن بهذه التكتيكات بشكل رئيسي ما بين الطرفين، ولا يعتقد أن الضغوط الأمريكية والبريطانية ستسفر عن نتائج ملموسة في المرحلة المقبلة فيما يتعلق بهذا الملف.

3- سعى تركيا لإدماج الفصائل الموالية في سوريا: رغم أن روسيا أنهت أزمة درعا، إلا أنها في حاجة أيضاً إلى تسوية أزمة إدلب التي عادت مرة أخرى إلى التوتر ما قد يهدد تفاهمات مارس 2020 مع تركيا، لاسيما أن موسكو ترى أن هناك إخلالاً من الجانب التركي بشأن الفصل بين القوى المتطرفة والمعتدلة. ومع الإعلان عن قمة بوتين – أردوغان، جرى الكشف أيضاً عن انضمام “فرقة القوات الخاصة” إلى “الجبهة السورية للتحرير” التي أعلن عن تشكلها فى 9 سبتمبر الجاري، وتضم معظم الفصائل الموالية لتركيا مثل مجموعات (فرقة “الحمزة”- فرقة “المعتصم”- فرقة “السلطان سليمان شاه”– فرقة “صقور الشام”- الفرقة “20”). هذه التركيبة من الفصائل المسلحة تعكس أن أنقرة تسير في اتجاه إدماج الفصائل، تحت مظلة “الجيش الحر” لزيادة أوراق الضغط وليس العكس.

4- تغير توازنات القوى في إقليم قره باغ: تشير هذه التفاعلات في مجملها إلى أن أنقرة وموسكو لديهما القدرة باستمرار على إدارة معادلة اشتباك تكتيكية، وأنه لا يوجد أفق لإنهاء مسار توظيف المرتزقة والفصائل المسلحة عبر نقاط التماس في الأقاليم المختلفة، إلا فى حالة واحدة وهى فض الاشتباك وانتهاء الصراع بشكل نهائي، على نحو ما جرى في حالة قره باغ، والتي تعتقد تركيا أنها خرجت منها بمكاسب أكبر، لكنها في سوريا أو ليبيا لا تزال غير مستعدة لتغيير الواقع، في ظل استمرار الأزمات.

في هذا السياق، من الأهمية بمكان الوضع في الاعتبار أنه فى حالتى سوريا وليبيا هناك صراع أو تنافس على مسرح واحد مع افتراض وجود خط ما بين الشرق والغرب. أما في حالة أذربيجان وأرمينيا، فقد كان الوضع مختلفاً، حيث أن هناك دولتين تتصارعان، وحتي لو كان الصراع بينهما على منطقة حدودية مشتركة، فمن السهولة وضع ترتيبات أمنية مشتركة تشارك فيها الأطراف الأربعة. لكن بالنسبة لسوريا وليبيا، كان الوضع أكثر تعقيداً من ذلك، وربما سيزداد تعقيداً في المستقبل إذا ما جرت الانتخابات في الأخيرة بالفعل. ورغم أنه ليس من مصلحة الأطراف اندلاع حرب شرق- غرب في ليبيا خلال المرحلة الحالية، وربما تكون هناك أدوات يمكنها الحد من هذا الاحتمال، ما يعني أنه سيناريو أقل احتمالاً على الأقل قبل إجراء الانتخابات، إلا أنه لا يمكن استبعاد انفجار الأوضاع فى الغرب ما بين المليشيات في المرحلة المقبلة، وبالتالي ستصبح الجبهة التي تتواجد فيها تركيا رخوة بالإضافة إلى أنها ستطال المرتزقة الأجانب. 

5- مخاطر استغلال أنقرة للمرتزقة الأجانب: استفادت تركيا من وجود المرتزقة بشكل غير مباشر في الحصول على عوائد مالية يحولها السوريون إلى مخيمات اللجوء، ما يخفف من وطأة الضغط الاقتصادي للاجئين السوريين على تلك المخيمات التي تشتكي أنقرة باستمرار من أنها تتحمل كُلفة كبيرة بسببها. إلا أن هناك تقديرات ترى أن أنقرة لا تبالي بمسارات تسرب المرتزقة كمقاتلين بالأجر إلى العمق الأفريقي، أو الهجرة إلى أوروبا. لكن في المقابل بالنسبة لموسكو، فإن انضمام عناصر مرتزقة إلى التنظيمات الإرهابية سيشكل خطراً، وهى النقطة الخلافية مع أنقرة في سوريا، على نحو ما عكسته مطالبة الأولى للثانية بالتفرقة بين العناصر المتشددة والمعتدلة. ومع إعادة تموضع التنظيمات الإرهابية في جنوب ليبيا، لاسيما تنظيم “داعش”، ستزداد خطورة هذا الوضع. ويفسر هذا التطور أن روسيا ربما أصبحت أكثر صراحة ووضوحاً فى التعاطي مع ملف المرتزقة في ليبيا.

فى الأخير، يبدو واضحاً أن المرتزقة تحولوا إلى أحد أهم أسباب الفوضي الإقليمية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة. ورغم التراجع في مستوى التصعيد في مناطق الصراعات، إلا أن بقاء مثل هذه الأدوات على مسارح التفاعلات سيظل يشكل مؤشراً على استمرار تلك الفوضي بصور ومستويات مختلفة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الاتجاهات الخاصة بتسوية هذا الملف، لاسيما بين الأطراف  الرئيسية فيه على غرار روسيا وتركيا، هى مبادرات فعلية للتجاوب مع مواقف مختلف القوى المنخرطة في تلك الصراعات، أم مناورات تدير تلك المجموعات وتعيد انتشارها وفقاً لحسابات خاصة بكل طرف منها.