تباين الأجندات:
أبعاد معضلة الحكومات الائتلافية في دول المنطقة

تباين الأجندات:

أبعاد معضلة الحكومات الائتلافية في دول المنطقة



رغم مراهنة اتجاهات عديدة على صيغة الحكومة الائتلافية كطريقة لإدارة الأزمات التي عايشتها المنطقة خلال السنوات الماضية، فإن السياقات التي شهدتها بعض دولها منذ عام 2011 كشفت عن صعوبة التعويل على هذا النمط من الحكم، إذ أن حالة عدم الاستقرار الممتدة في المنطقة والتي ارتبطت بتصاعد حدة النزاعات المسلحة في أكثر من دولة، عززت من خطابات الاستقطاب السياسي والطائفي، كما سعى العديد من الفاعلين إلى استغلال فراغات السلطة القائمة من أجل إعادة تشكيل ملامح الدولة وكذلك توزيع الموارد السياسية والاقتصادية.

وكان لهذه المعطيات انعكاس واضح على امتداد المنطقة بدرجات مختلفة، ولذا فإن تشكيل حكومات ائتلافية في أكثر من دولة، على غرار العراق ولبنان وتونس، لم يكن سوى استكمال للصراع القائم على النفوذ لاسيما أن الإعلان عن مثل هذه الحكومات جاء- في كثير من الأحيان- في إطار ضغوط خارجية أثارت شكوكاً حول مدى التزام واقتناع القوى السياسية الداخلية بالتشارك في السلطة.

ومع ذلك، فإن اتجاهات أخرى ترى أن الحكومة الائتلافية قد تكون هى النمط الأنسب في بعض الحالات، على غرار المغرب، حيث أعلن رئيس الحكومة المُكلَّف عزيز أخنوش، في 22 سبتمبر الجاري، تشكيل حكومة ائتلافية تضم أكبر ثلاثة أحزاب حصلت على مقاعد في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 8 سبتمبر الجاري، وهى أحزاب “التجمع الوطني للأحرار” و”الأصالة والمعاصرة” و”الاستقلال”، وهو ما دفع أطرافاً عديدة إلى دعم تلك الخطوة باعتبار أنها تمثل مدخلاً مهماً للتعامل مع التحديات التي تتعرض لها المغرب على مستويات مختلفة في الوقت الحالي.

أزمات متلاحقة

تتعرض الحكومات الائتلافية في بعض الدول العربية لأزمات متلاحقة. ففي لبنان، عبّرت عملية تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي، في 10 سبتمبر الجاري، عن التعقيدات التي تواجهها الحكومات الائتلافية في المنطقة، حيث جاء تشكيل الحكومة بعد مرور أكثر من عام على حالة الفراغ الحكومي في لبنان، نتيجة استقالة حكومة حسّان دياب في 10 أغسطس 2020، وعجز كل من مصطفى أديب وسعد الحريري عن تشكيل الحكومة في ظل الصراع السياسي القائم بين القوى السياسية المكونة لنظام الحكم اللبناني القائم على المحاصصة الطائفية. وحتى بعد تشكيل حكومة ميقاتي، فإن الواقع اللبناني يفرض تحديات عديدة على هذه الحكومة التوافقية.

وفي العراق، أعلن عن تشكيل الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، في 6 مايو 2020، بعد حالة من عدم الاستقرار وموجة هائلة من الاحتجاجات أرغمت حكومة عادل عبد المهدي السابقة على تقديم استقالتها في 29 نوفمبر 2019. ومع ارتباط وصول الكاظمي إلى السلطة بحراك شعبي، يبدو أن هذا الحراك أضفى المزيد من التعقيدات على عمل الحكومة لاسيما مع الانتقادات التي وجهتها بعض القوى السياسية لها واتهامها بالإخفاق في التعامل مع الملفات الملحة.

وفي تونس، ورغم أن الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء الأسبق إلياس الفخفاخ حازت ثقة البرلمان في 27 فبراير 2020، إلا أنها لم تبق في السلطة سوى خمسة أشهر فقط، حيث قدم الفخفاخ استقالته في 15 يوليو من العام نفسه، فيما حاول خلفه رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي تجنب هذا النمط من الحكومات، من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط، حازت ثقة البرلمان في 2 سبتمبر من العام نفسه، إلى أن قام الرئيس قيس سعيّد بإقالتها ضمن الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها في 27 يوليو 2021. 

متغيرات رئيسية

ترتبط معضلة الحكومات الائتلافية في المنطقة بعدد من المتغيرات الرئيسية التي يتمثل أبرزها في:

1- تأثير متزايد للعامل الخارجي: جاءت الكثير من الحكومات الائتلافية التي تشكلت في دول المنطقة، على غرار لبنان والعراق، في خضم تأثير متعاظم لأطراف خارجية، على نحو استبطن إشكالية الاقتناع من قبل الأطراف الداخلية المنخرطة في عملية تشكيل الحكومة، وهو أمر وثيق الصلة بالصراعات القائمة في بعض دول المنطقة، فتدخل طرف خارجي لفرض تسويات معينة والضغط من أجل تشكيل حكومات ائتلافية يجعل نجاح هذه الحكومات أمراً مشكوكاً فيه لاسيما أن تشكيل هذه الحكومات يظهر بوصفه عملية مصطنعة بفعل الضغوط الخارجية لأن الأطراف السياسية لم تتجه إلى الحكومة الائتلافية وفقاً لحساباتها الذاتية والإدراكية أو ما يطلق عليه البعض التحول المعرفي Cognitive Shift حيث الاعتراف بإمكانية تشكيل موقف مُربح لجميع الأطراف.

ولا يمكن إغفال أن هذه المعطيات كانت حاضرة في مشهد تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، إذ لم تكشف هذه الخطوة عن توافق حقيقي بين القوى السياسية، بقدر ما كشفت عن أدوار خارجية ضاغطة، وهو ما عزز من احتمالية أن تكون القوى السياسية تبنت التوافق لاستيعاب ضغوط القوى الدولية المنخرطة في المشهد اللبناني، فربما تكون المواقف المعلنة من القوى السياسية مجرد أداة للابتعاد عن فخ العقوبات والضغوط الدولية، وخاصة الفرنسية، المحتملة في حال عرقلت عملية الإصلاح.

2- تعدد الملفات والأزمات الضاغطة: تشكلت بعض الحكومات الائتلافية في سياق محتدم بالأزمات والتعقيدات. فعلى سبيل المثال، تتعرض الحكومة العراقية لضغوط عديدة لاسيما أنها جاءت بعد موجة من الاحتجاجات الشعبية في عام 2019، على استشراء الفساد وارتفاع معدل البطالة وسوء الخدمات العامة، بالإضافة إلى تزايد الغضب الشعبي الذي نجم عن تعامل الأمن العراقي مع هذه الاحتجاجات، وأفضى إلى سقوط العديد من الضحايا في صفوف المحتجين، كما تصاعد السخط المجتمعي من أداء الحكومة في بعض الملفات مثل ملف الكهرباء.

ولا تغيب مثل هذه التحديات عن الحالة اللبنانية، حيث تواجه الحكومة الجديدة تحديات عديدة في مقدمتها التحدي الاقتصادي، إذ يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة تجلت ملامحها في التراجع الحاد في قيمة العملة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، والتدهور الكبير الحاصل في أسعار المواد الغذائية بتدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي، حيث خسرت أكثر من 90% من قيمتها خلال أقل من عامين.

كما أشار البنك الدولي في تقريره الأخير، الصادر في أول يونيو الماضي، عن وضع الاقتصاد اللبناني ربيع 2021، إلى أن الوضع المالي والاقتصادي في لبنان يصنف من بين أشد عشر أزمات، وربما من بين الثلاث الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعدّد التقرير مؤشرات الأزمة والتي من ضمنها تراجع إجمالي الناتج المحلي من حوالي 55 مليار دولار في عام 2018 إلى حوالي 33 مليار دولار في عام 2020، مع تراجع إجمالي الناتج المحلي للفرد بالدولار الأمريكي بنسبة حوالي 40%. ورجح التقرير أيضاً أن يكون أكثر من نصف السكان دون خط الفقر الوطني، وذلك في ظل تراجع القوة الشرائية، فضلاً عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية على إمدادات المياه والكهرباء للمواطنين.

3- انعكاسات التوازنات السياسية والطائفية: وتمثل عاملاً ضاغطاً على الحكومات الائتلافية في بعض دول المنطقة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك، الحالة اللبنانية، إذ أن تأخر تشكيل الحكومة منذ استقالة حكومة حسّان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، كان وثيق الصلة بالمطالب الطائفية المتعارضة، فبعض القوى السياسية مثل التيار الوطني الحر طرحت شروطاً على كل من مصطفى أديب وسعد الحرير لتشكيل الحكومة الائتلافية بحيث يضمن التيار الحصول على عدد وزارات يُؤمِّن له الثُلث المعطل. كما تحدثت بعض التقارير عن تمسك الثنائي الشيعي- حزب الله وحركة أمل- ببعض الحقائب الوزارية، مثل وزارة المالية.

4- الضغط للحصول على تنازلات: لجأت بعض القوى السياسية إلى ممارسة بعض الضغوط على الحكومات الائتلافية للحصول على تنازلات منها. وربما كان النموذج الأهم لذلك رجل الدين الشيعي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، فحينما أعلن الصدر، في خطاب له في 15 يوليو الماضي، عن عدم المشاركة في الانتخابات التشريعية العراقية المقرر إجراؤها في 10 أكتوبر القادم، برر ذلك القرار بالمشكلات التي تواجه إدارة الدولة من قبل السلطة، وخصوصاً أن الإعلان جاء بالتزامن مع كارثة حريق مستشفى الحسين الخاص بمرضى فيروس “كورونا” المستجد في مدينة الناصرية. وأشار الصدر في الخطاب إلى أنه “برىء ممن يدعون الانتماء إلى تياره في الحكومتين الحالية والمقبلة”، وطالب بخضوع الجميع للمحاسبة.

صحيح أن الصدر تراجع عن هذا القرار، في 27 أغسطس الفائت، إلا أنه استمر في ممارسة الضغط على السلطة لتقديم تنازلات، وكذلك تعزيز حضوره في المشهد السياسي العراقي، وقد دلل على ذلك ما جاء في خطاب الصدر حول التراجع عن قراره بمقاطعة الانتخابات، إذ أكد أنه سيشارك في الانتخابات من أجل إنقاذ العراق من الفساد، وأضاف أنه تسلم ورقة إصلاح موقعة من عدد من الزعماء السياسيين، وأن الورقة “جاءت وفق تطلعاتنا وتطلعات الشعب الإصلاحية، لذلك فإن العودة للمشروع الانتخابي المليوني الإصلاحي باتت أمراً مقبولاً… وأن الورقة الإصلاحية تلك يجب أن تكون ميثاقاً وعقداً معهوداً بين الكتل والشعب بسقف زمني معين بدون مشاركة الفاسدين وذوي المصالح الخارجية وعشاق التبعية والتسلط والفساد”.

وأشارت تقارير عديدة إلى أن التيار الصدري أبدى دعمه للكاظمي لتولي رئاسة الوزراء مرة ثانية، مقابل الوثيقة الإصلاحية التي تضمنت تعهد الكتل السياسية التي تشكل مجلس النواب بعد الانتخابات التشريعية بتعديل الدستور، وضمان ونزاهة الانتخابات، وتلزم الحكومة المقبلة بالسقف الزمني لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي بالعراق، وحصر السلاح بيد الدولة، وتجريم الخطاب السياسي الطائفي والعنصري وفق القانون.

5- محاولات الهيمنة على العملية السياسية: على نحو يبدو جلياً في حالة تونس، حيث سعت حركة “النهضة” باستمرار إلى السيطرة على المشهد السياسي، سواء عبر وجودها في البرلمان أو من خلال مشاركتها في الحكومات المتعاقبة، وهو ما كان له دور رئيسي في تصاعد حدة التحديات والأزمات التي واجهتها تونس خلال المرحلة الماضية، لاسيما ما يتعلق بانتشار فيروس “كورونا”. وقد كان من ضمن أهداف القرارات الإصلاحية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو الماضي، خاصة ما يتعلق بإقالة الحكومة وحل البرلمان، هو وقف هذه المحاولات، لتعزيز قدرة الدولة على مواجهة هذه الأزمات.

ختاماً، فإن هذه المتغيرات ستظل عوامل ضاغطة على الحكومات الائتلافية في المنطقة لتُعقِّد من عمل هذه الحكومات، وتقلل من فرص نجاحها لاسيما مع ما أنتجته سنوات الصراع العنيف في المنطقة منذ عام 2011 من التأسيس لممارسات إقصائية تتجاوز أطروحات التعايش وتتعاطى مع السياسة بمنطق صفري لا يعترف بإمكانية تبنى صيغة مُربِحة لجميع الأطراف.