شهدت المنطقة تصعيداً متبادلاً بين تنظيم “داعش” والقوات الدولية والمحلية المعنية بالحرب ضده في أعقاب سيطرة حركة “طالبان” على العاصمة الأفغانية كابول، في 15 أغسطس 2021، حيث تنامت العمليات الإرهابية التي يقوم بها التنظيم داخل بعض دول المنطقة خلال شهرى أغسطس وسبتمبر من العام الجاري، مع تنوع في طبيعة المستهدف، وحِدَّة في تلك العمليات، وهو ما بدا جلياً عبر استهداف “داعش خرسان” لعناصر من حركة “طالبان”، في 19 سبتمبر الجاري، حيث أعلن التنظيم عن مقتل ما يقرب من 35 من عناصر الحركة في سلسلة تفجيرات، استهدفت 6 آليات بمدينة جلال أباد عاصمة محافظة ننجرهار شرقى أفغانستان، وسبق ذلك قيام التنظيم بشن هجوم عنيف في نيجيريا أدى إلى مقتل 16 عنصراً من الجيش في 16 من الشهر نفسه، وهو ما تزامن مع تصاعد في حدة العمليات الإرهابية للتنظيم في كل من العراق وسوريا خلال الفترة الماضية.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أنه بقدر ما كانت العمليات الإرهابية للتنظيم عنيفة، بقدر ما كانت عمليات استهداف قياداته ومواقعه مؤثرة، على نحو بدا جلياً في الضربات الأمنية التي شنتها أطراف عديدة ضد أفرع التنظيم في منطقة الساحل الإفريقي والعراق وأفغانستان خلال الفترة الأخيرة.
ضربات متتالية
وجّهت القوات الدولية والمحلية ضربات قوية لأفرع تنظيم “داعش” في دول مختلفة، أسفرت عن مقتل العديد من قيادات ومسئولي بعض تلك الأفرع. فقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من استهداف ثلاث قيادات بتنظيم “داعش خراسان”، في أعقاب الهجوم الذي قام به التنظيم الإرهابي على مطار كابول، في 26 أغسطس الفائت، حيث قامت القوات الأمريكية بقتل اثنين من قياديي التنظيم، بعد ذلك بيومين، بالإضافة إلى قتل أحد القيادات الأخرى في أفغانستان عبر ضربة جوية بواسطة طائرة مُسيَّرة.
فيما أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في 16 سبتمبر الجاري، عن قتل زعيم تنظيم “داعش” في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، وهو الإرهابي عدنان أبو وليد الصحراوي، المسئول عن فرع التنظيم (غرب إفريقيا). وتعتبر هذه العملية من أكثر الضربات الأمنية قوة تجاه تنظيم “داعش” بعد مقتل زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي، في 27 أكتوبر 2019، إذ يعتبر فرع تنظيم “داعش” في غرب إفريقيا من أكثر أفرع التنظيم قوة من حيث عدد العمليات الإرهابية مقارنة بمجمل أفرع التنظيم المختلفة، على نحو انعكس في احتلاله المرتبة الثالثة من حيث قوة التأثير- بعد فرعى التنظيم في العراق وسوريا- خلال عام 2021.
بالتوازي مع ذلك، نجحت قوات الأمن العراقية، خلال العام الجاري، في استهداف العديد من قيادات الصف الثاني بتنظيم “داعش”، حيث تمكنت من قتل اثنين من قياديي التنظيم وإلقاء القبض على سبعة آخرين بمحافظة ديالي في 25 أغسطس الفائت. وربما لا يمكن فصل ذلك عن اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر القادم، حيث تسعى حكومة مصطفى الكاظمي إلى تأكيد جديتها في توفير مناخ أكثر استقراراً لإجراء الانتخابات.
واللافت في هذا السياق، هو أن هذا التصعيد ضد التنظيم يتزامن أيضاً مع ضربات أمنية توجه له داخل بعض الدول من خارج المنطقة، على غرار إندونيسيا، حيث أعلنت السلطات الإندونيسية في 19 سبتمبر الجاري، عن مقتل علي كالورا زعيم جماعة “مجاهدي شرق إندونيسيا” – التي لها صلات بتنظيم “داعش”- إلى جانب قيادي آخر هو جاكا رمضان المعروف باسم عكرمة.
دوافع متعددة
يمكن تفسير هذا التصعيد المتزامن من جانب القوات الدولية والمحلية ضد تنظيم “داعش” في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الضغط على التنظيم المركزي في العراق: شهدت عمليات تنظيم “داعش” خلال الأشهر الماضية تنامياً ملحوظاً بشكل اقترب من العمليات التي كان يقوم بتنفيذها قبل سقوط الباغوز في سوريا في مارس 2019، وهو ما يفرض تهديداً حقيقياً على استقرار المنطقة، ومن ثم تأتي عملية استهداف قيادات “داعش” من قبل دول المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، في إطار سعى تلك القوى إلى الضغط على التنظيم المركزي بهدف تقليص نشاطه سواء على مستوى المركز أو على مستوى باقي أفرع التنظيم المختلفة بدول المنطقة.
2- توجيه رسائل أمريكية للحلفاء الإقليميين: سعت التنظيمات الإرهابية إلى استغلال القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانسحاب العسكري من أفغانستان، بالتوازي مع تخفيض عدد القوات الأمريكية الموجودة في بعض دول المنطقة، من أجل تصعيد عملياته وتوسيع نطاق نفوذه مرة أخرى، وهو ما دفع الإدارة إلى التحرك بهدف توجيه رسائل مباشرة تفيد أن مثل هذه التحركات لا تعني أن واشنطن سوف تتراجع عن الانخراط في الجهود التي تبذلها قوى دولية وإقليمية عديدة لمكافحة التنظيمات الإرهابية، لاسيما أن هذا التراجع يمكن أن يفرض تهديدات مباشرة لأمنها ومصالحها.
3- منع انتقال الإرهابيين إلى أفغانستان: ربما حاولت القوى المعنية بمحاربة الإرهاب توجيه تلك الضربات من أجل منع العناصر الإرهابية من محاولة الانتقال إلى أفغانستان للمشاركة في العمليات التي يقوم بها فرع “خراسان”، لاسيما في أعقاب سيطرة حركة “طالبان” على الحكم، والتي وجّهت إشارات متعددة في الفترة الماضية تفيد أنها سوف تلتزم بما جاء في اتفاق السلام مع الولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2020، لاسيما فيما يتصل بالموقف من التنظيمات الإرهابية الموجودة على الأراضي الأفغانية، وهو ما تبدي اتجاهات مختلفة شكوكاً عديدة في مدى إمكانية تطبيقه على الأرض.
4- تقليص نفوذ “داعش” بغرب إفريقيا: مع تصاعد حدة الضغوط والأزمات التي يواجهها تنظيم “القاعدة” في منطقة الساحل الإفريقي، عقب مقتل زعيم تنظيم “بوكو حرام” أبو بكر شيكاو، في 7 يونيو الماضي، بدأت العديد من قيادات الأخير تعلن البيعة لتنظيم “داعش”، وهو ما يضفي مزيداً من القوة على فرعه في غرب إفريقيا، على نحو يفرض تهديداً مباشراً لأمن واستقرار دول المنطقة والمصالح الغربية، وخاصة الفرنسية، بشكل دفع باريس إلى تكثيف عمليات استهداف قيادة تنظيم “داعش- فرع غرب إفريقيا”، في الفترة الماضية.
5- احتواء قدرة الخصوم على ملء الفراغ: أشارت اتجاهات عديدة إلى أن بعض القوى الدولية- لاسيما الصين وروسيا- قد تسعى إلى استغلال انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من بعض دول الإقليم، لاسيما أفغانستان، من أجل ملء الفراغ الذي سوف ينتج عن ذلك، وهو ما دفع واشنطن إلى إلقاء الضوء على النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة عبر توجيه ضربات أمنية نوعية للتنظيمات الإرهابية تستهدف قياداتها ومواقعها الرئيسية.
في المجمل، يبدو أن ظاهرة استهداف قيادات تنظيم “داعش” سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، في ضوء تطلع العديد من القوى الدولية والمحلية إلى دعم الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب في دول المنطقة، وتعزيز قدرة الحكومات على تنفيذ الاستحقاقات السياسية القادمة، ومنع التنظيمات الإرهابية من إعادة توسيع نطاق نشاطها من جديد داخل تلك الدول.