تستعد إيران في الوقت الحالي لاحتمال استئناف المفاوضات التي تجري مع مجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة في فيينا حول الاتفاق النووي، خاصة بعد أن انتهاء الرئيس إبراهيم رئيسي من تشكيل حكومته، وإجراء تغيير في وزارة الخارجية بتعيين علي باقري كني مساعداً لوزير الخارجية للشئون السياسية خلفاً لعباس عراقجي الذي تولى رئاسة وفد التفاوض في المفاوضات التي توقفت عند جولتها السادسة في 20 يونيو الماضي.
لكن اللافت في هذا السياق، أن إيران كانت حريصة على توجيه رسائل عديدة- بالتوازي مع اقتراب موعد المفاوضات المحتملة- تلقي من خلالها الضوء على مواقفها من التطورات السياسية التي تشهدها ثلاث دول عربية في الوقت الحالي، وهى سوريا ولبنان العراق. ورغم أن هذه الرسائل حملت مؤشرات تكشف عن أنها تتماهى إيجابياً مع تلك التطورات الحالية، إلا أن ذلك قد لا يبدو توجهاً مستقراً لديها، حيث أن تلك المواقف قد تتغير حسب المسارات التي يمكن أن تتجه إليها المفاوضات التي تجري في فيينا، في ظل الخلافات المتعددة العالقة بين إيران والدول الغربية، فضلاً عن إصرار الأولى على استئناف المفاوضات بشروط جديدة تتعلق بالتقدم الذي حققته في برنامجها النووي، لاسيما ما يتعلق برفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى 60% وإنتاج نحو 10 كيلو جرام منه.
اهتمام ملحوظ
أبدت إيران اهتماماً خاصاً بالزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إليها، في 12 سبتمبر الجاري، والتي تضمنت أول لقاء لمسئول أجنبي مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، عقب توليه مهام منصبه. ورغم أن العنوان الرئيسي للزيارة اكتسب طابعاً اقتصادياً، بدا جلياً سواء في طبيعة الوفد الذي ترأسه الكاظمي خلال الزيارة أو في النتائج التي أسفرت عنها في النهاية، إلا أن الجانب السياسي لم يغب عنها، لاسيما مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات التشريعية العراقية في 10 أكتوبر القادم، والتي سوف تساهم، إلى حد كبير، في صياغة الترتيبات السياسية داخل العراق خلال المرحلة القادمة، وتحديد موقع مختلف القوى السياسية منها.
ورغم أن موقف إيران من الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في لبنان برئاسة نجيب ميقاتي، في 10 سبتمبر الجاري، بدا غامضاً، إلا أنه كان لافتاً أنها سمحت لوسائل إعلامها بالإشارة إلى أن حزب الله كان له دور أساسي في إنجاز تلك الخطوة التي أنهت الفراغ الحكومي الذي استمر أكثر من عام منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. وتوازى ذلك مع إصدار موقع “تانكر تراكرز” تقريراً، في 15 سبتمبر الجاري، يكشف عن وصول ناقلة نفط إيرانية إلى ميناء بانياس السوري لنقل شحنة من المحروقات إلى لبنان.
ومع أن إيران شاركت في قمة بغداد للشراكة والتعاون التي عقدت في 28 أغسطس الفائت، فإنها كانت حريصة على توجيه إشارة إلى ضرورة إشراك سوريا في القمة، باعتبار أنها إحدى دول جوار العراق. وكان لافتاً أن الزيارة الثانية لوزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبد اللهيان، إلى الخارج، بعد مشاركته في قمة بغداد، كانت إلى سوريا، حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد، في 29 من الشهر نفسه، وكانت نتائج قمة بغداد أحد محاور المباحثات التي أجراها في العاصمة السورية.
أهداف عديدة
يمكن القول إن إيران سعت عبر توجيه هذه الرسائل إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- ربط تطورات المنطقة بمسارات الصفقة: سعت إيران عبر تجنب عرقلة تشكيل حكومة جديدة في لبنان برئاسة نجيب ميقاتي إلى تأكيد أن أية نتائج إيجابية قد تنتهي إليها المفاوضات التي سوف تجري في فيينا يمكن أن تنعكس بشكل مباشر على الملفات الإقليمية، لاسيما في الدول التي تواجه أزمات اقتصادية وأمنية لا تبدو هينة، وتحظى باهتمام خاص من جانب القوى الدولية.
وقد كان لافتاً أن تقارير عديدة أشارت إلى أن تشكيل حكومة ميقاتي جاء بعد توافر متغيرات عديدة دفعت في هذا الاتجاه، على غرار وصول فرنسا إلى توافق مع إيران في هذا الصدد، بعد الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيسين الفرنسي ايمانويل ماكرون والإيراني إبراهيم رئيسي في 5 سبتمبر الجاري. من هنا يمكن القول إن تلك التهدئة تبدو مرتبطة، في رؤية إيران، بما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات في النهاية، بما يعني أن أية نتائج أخرى لتلك المفاوضات، غير الصفقة، قد تنعكس بالسلب على تلك التهدئة، وبالتالي على اتجاهات الأوضاع في لبنان.
2- تغيير المواقف الدولية تجاه الحلفاء: ويبدو ذلك بشكل واضح في الانتقادات التي وجهتها إيران لعدم إشراك سوريا في قمة بغداد، حيث ترى أن ذلك معناه أن بعض القوى الدولية- في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية- ما زالت مصرة على عدم التعامل مع النظام السوري، رغم تغير توازنات القوى داخل سوريا لصالحه في الأعوام الأخيرة، وهو ما تحاول طهران احتواء تداعياته من خلال دعم قنوات التواصل بين النظام السوري وأطراف عديدة في المنطقة والعالم. وفي هذا السياق، لا يمكن استبعاد أن تسعى إيران خلال المفاوضات النووية إلى تغيير مواقف قوى دولية عديدة- مثل فرنسا- تجاه النظام السوري.
3- تقليص الضغوط المفروضة على حزب الله: حرصت وسائل الإعلام التابعة لإيران وحزب الله على الترويج إلى أن الأخير كان له دور بارز في تشكيل الحكومة الجديدة، وأنه سيكون له دور في مساعدتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تتصاعد حدتها في الفترة الحالية، خاصة فيما يتعلق بتأمين شحنات من الوقود الإيراني. وربما يكون الإصرار على نقل شحنة جديدة من بانياس إلى لبنان في هذا التوقيت محاولة لتأكيد أن تشكيل الحكومة الجديدة لا يفرض معطيات مختلفة تمنع استمرار هذا التوجه في المرحلة القادمة. وتسعى طهران عبر ذلك إلى تقليص الضغوط الدولية المفروضة على الحزب، في ظل الاتهامات التي توجهها قوى دولية عديدة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الأخير بالمسئولية عن عرقلة جهود تشكيل الحكومة على مدى عام كامل.
4- احتواء تداعيات سياسة التوجه شرقاً: بدأت طهران خلال الفترة الأخيرة في إبداء اهتمام أكبر بتطوير العلاقات مع دول وسط آسيا، بالتوازي مع انخراطها بشكل واضح في الأزمة الأفغانية، لاسيما بعد سيطرة حركة “طالبان” على مجمل أقاليم الدولة بما فيها إقليم بانشير الذي كانت تتحصن فيه قوى المقاومة بقيادة أحمد مسعود. وكان لافتاً أن الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي كانت لطاجيكستان، في 16 سبتمبر الجاري، حيث يشارك خلالها في قمة منظمة تعاون شنغهاى. وهنا، فإن إيران تسعى عبر توجيه تلك الرسائل الحالية إلى تأكيد أن تصاعد اهتمامها بسياسة “التوجه شرقاً” فضلاً تزايد احتمال انخراطها بشكل أكبر في الأزمة الأفغانية لن يمنعها من محاولة الحفاظ على حضورها في الملفات الإقليمية بالمنطقة، لاسيما في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
5- استباق نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية: تراقب طهران بدقة التطورات السياسية في العراق قبل إجراء الانتخابات التشريعية، في 10 أكتوبر القادم، حيث تسعى إلى تعزيز فرص القوى الحليفة لها في تكريس سيطرتها على السلطة. وربما حاولت من خلال زيارة الكاظمي توجيه رسائل إلى الداخل العراقي بأنها تدعم الجهود التي تبذلها الحكومة على المستويات المختلفة، لاسيما الاقتصادي والأمني، على نحو قد يساهم في احتواء الانتقادات التي توجهها لها قوى سياسية عديدة بالتدخل في الشئون الداخلية، ومن ثم دعم احتمالات نجاح القوى الحليفة لها في تحقيق نتائج بارزة في الانتخابات، التي سوف تكون متغيراً رئيسياً في تحديد موقع الكاظمي نفسه من التوازنات السياسية التي سوف تفرضها تلك النتائج في النهاية. كما سيكون لها دور في تقييم مدى استمرارية أو تراجع عملية تصفية الحسابات مع الولايات المتحدة الأمريكية داخل العراق على ضوء ما سوف تؤول إليه المفاوضات في فيينا.
على ضوء ذلك، يمكن القول إن تلك الرسائل سوف تتواصل في المرحلة القادمة، خاصة أن الخلافات المتصاعدة بين إيران والدول الغربية في فيينا ربما تدفع الأولى إلى التلويح بورقة دورها الإقليمي بهدف ممارسة ضغوط على تلك الدول والحصول على مكاسب استراتيجية عديدة تتوافق مع التطور الذي أحرزته في برنامجها النووي.