أشعر بغصةٍ قومية ــ إذا جاز التعبيرــ وأنا أشهد غياب الدولة السورية عن الساحة العربية، فسوريا ليست أي دولة ولكنها كيانٌ قومي تربت العروبة في أحضانه وانطلقت منه الحركات المتصلة بالفكر القومي خصوصًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويرتبط المصريون تاريخيًا بسوريا برابطة خاصة إذ إن الدولتين اندمجتا مرتين في القرنين الماضيين، الأولى عام 1831 عندما وصل جيش إبراهيم باشا إلى الشام, والثانية من عام 1958 إلى 1961 في ظل الجمهورية العربية المتحدة التي انهارت بالانفصال الذي جرى تدبيره لضرب تلك التجربة الوحدوية بين الدولتين اللتين تربطهما دائمًا روابط ذات خصوصية، لذلك فإن الحديث عن سوريا بالنسبة للمصريين ولغيرهم من الأشقاء العرب هو حديث ذو شجون، وأنا أظن أن تجميد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية لم يكن قرارًا حكيمًا بغض النظر عن مبرراته في ذلك الوقت، فسوريا كانت دائمًا محط الأنظار ومركز الأطماع، لذلك كان من الواجب التعامل معها بهذا المنطق وليس على أنها كيان مريض مهما تختلف الآراء تجاه السياسة والحكم في دمشق، والغريب في الأمر أن سوريا طرفٌ في معظم مشكلات المشرق العربي وأزمات غرب آسيا عمومًا بدءًا من المشكلة الكردية، مرورًا بالانقسامات الطائفية، وصولاً إلى مشكلات الحدود والمياه مع حساسية خاصة للجوار التركي وذكرياته الأليمة في مشانق دمشق وضرب الحركة القومية السورية في مطلعها، حتى ظهر حليفٌ قوي للنظام السوري في العقود الأخيرة وهو الذي يتمثل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع موقف مختلف عن تركيا وربما يكون متناقضا تجاه حكم بيت الأسد في عاصمة الأمويين، لذلك كان طبيعيًا أن نشعر بالتقارب الخفي بين طهران وأنقرة ورؤيتهما المتقاربة تجاه الملف السوري وذلك رغم التناقض الظاهري بين موقفي إيران وتركيا تجاه الدولة السورية، لذلك فإنني استأذن القارئ في أن أضع أمامه ثلاث حقائق:
الأولى: يتميز القطر السوري بالتعددية الدينية والقومية فضلاً عن التنوع في الأعراق والأنساب بسبب موقعه الجغرافي ومكانته الاستراتيجية، فمنها انطلقت المسيحية الأولى وفيها عاش اليهود ثم احتضنت أرضها المباركة التبشير بالديانة المسيحية، إذ إن المسيح عليه السلام هو ابن فلسطين التي هي بدورها جزءٌ لايتجزأ من الشام الكبير أو التي يطلقون عليها سوريا الكبرى لذلك عرفت سوريا ألوان الطيف الفكري والديني والسياسي، ففيها عرب وغير عرب وعلى قمتها مسئولون من ذوي الانتماءات المتعددة والطوائف المختلفة، فضلاً عن سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي لسنوات متواصلة على مقدرات الدولة السورية والانطلاق منها إلى العراق والأردن فضلاً عن لبنان، إذ إن غرام السوريين بالشعارات السياسية والمواقف العقائدية هو غرام يتميزون به عن سائر الشعوب العربية، ولكن العجيب في الأمر هو تلك العلاقة المزدوجة بين كل من إيران وتركيا تجاه الدولة السورية، فإيران حليفٌ لحكم بشار الأسد بينما تركيا لديها نظرة مختلفة وسياسات تبتعد كثيرًا عن ذلك، ولكن الأمر مازال يراوح مكانه بسبب الخلاف التاريخي العميق بين العرب والعثمانيين الجدد، ولكن المؤكد أن الثورة الإسلامية في إيران التي دفعت بالتمدد الشيعي من خلال العلويين في سوريا هي نفسها التي تقف أمام امتداد الدولة السنية التركية عبر الحدود المشتركة مع سوريا.
الثانية: دعنا نعترف بأن سوريا مثلت دائمًا عقبة كئودًا أمام الدولة العبرية وحاولت أن تكون حائط صد في مواجهة السياسات التوسعية والاستيطانية في فلسطين، لأن سوريا ترى أنها مسئولة مسئولية خاصة تجاه الأرض العربية المحتلة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الشام الكبير الذي تجسد سوريا قلبه النابض وقيادته التاريخية، لذلك فإن سوريا هي حجر الزاوية في الصراع العربي الإسرائيلي وهي قاعدة الانطلاق القومي للعمل العربي المشترك، لذلك قال الإسرائيليون عبارتهم الشهيرة (إذا كانت لاحرب بدون مصر فإنه لا سلام بدون سوريا) وإذا كانت دمشق تحظى اليوم بدعم روسيا الاتحادية وإيران فهي تتمتع باهتمامٍ خاص من جانب تركيا لأنها ترى أن الحدود المشتركة بين الدولتين هي مصدر قلقٍ دائم لحكومة أنقرة، ومازلت أتذكر منذ عقدين من الزمان أو أكثر كيف تهيأت القوات التركية للدخول في معركةٍ حاسمة مع الجيش السوري ويومها تدخل الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في زيارة سريعة لدمشق وأنقرة لنزع فتيل العمل العسكري الذي كان وشيكًا، أما إيران فهي تعتبر سوريا الحليف الأكبر وتضمه لقائمة أطماعها مثلما هو الأمر جزئيًا بالنسبة للعراق ولبنان واليمن.
الثالثة: مازلنا نتحدث عن الربيع العربي بعلامات استفهام كثيرة، ولاندرك هل كان ربيعًا حقيقيًا أم خريفًا بامتياز ذلك أن قراءة النتائج توحي بما لا يتوقعه أحد، وأنا شخصيًا شاهدٌ على آخر زيارة لي إلى عاصمة بني أمية عام 2009 وكيف كانت دمشق حينها عروسًا متألقة بفنادقها ومطاعمها فضلاً عن الأمن والاستقرار في ربوعها وليس عليها ديون مالية، وفي ظني أن الوضع المؤلم في سوريا كان يمكن تحاشيه لو أنه جرى تدارك الأمر من البداية عندما انطلقت الشرارة من محافظة درعا، ولكن صوت الحكمة لم يتواصل بين دمشق والثوار حينذاك حتى احتشدت القوى المختلفة واندست بين صفوفها الجماعات الإرهابية.
لقد آن الأوان لكي نرى دمشق وسط شقيقاتها العربيات تتحمل معهم المسئولية، وتدرأ قوى الشر، وتعيد إلى العمل العربي المشترك أصوله بقوة الدفع التي لابد أن تعود.
نقلا عن الأهرام