المنافسة الاستراتيجية تمهد للحرب أم تمنعها؟ – الحائط العربي
المنافسة الاستراتيجية تمهد للحرب أم تمنعها؟

المنافسة الاستراتيجية تمهد للحرب أم تمنعها؟



قرأت بعض التقارير الرسمية والصحفية عن المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيسان الأمريكي بايدن، والصيني شي. أكدت جميعها عبارة وردت على لسان الرئيس بايدن. قال بايدن إنه سوف يدير المنافسة الاستراتيجية بين أمريكا والصين بمسؤولية. توقفت للحظات أمام كلمات الرئيس الأمريكي لأنها تعلقت بأمر كنت أنا نفسي أناقشه مع زملائي وأصدقائي، وهو الظن في أن مبادرة المنافسة الاستراتيجية كخطة يلتزم بممارستها وتنفيذها الطرف الأمريكي في علاقته بالصين لأمر يحمل في ثناياه مخاطر جمّة. أول المخاطر وأهمها الاحتمال الكبير بالانزلاق خلال ممارسة المنافسة الاستراتيجية نحو قاع كالجحيم، ألا وهو نشوب حرب عالمية جديدة. لا أشك للحظة واحدة في أن وعد بايدن في مكالمته الهاتفية بإدارة المنافسة الاستراتيجية مع الصين بمسؤولية ورد بغرض درء الشك في الاعتقاد السائد بأن المنافسة لابد وأنها ستجر الشعبين، وشعوباً أخرى عدة، نحو حرب عالمية مدمرة.

هذه العبارة يكاد لا يخلو منها كتاب أو بحث مهم في علوم الأمن والعلاقات الدولية كعلامة ثابتة في علاقات بعضها بالبعض الآخر. الجديد في استخدامها أنها صارت عنواناً لحالة علاقة استثنائية في المستقبل بين دولتين أعظم بعد أن أضيف إليها صفة «الاستراتيجية». أم أن هذه الصفة أضيفت بنيّة خبيثة وهي أن يكون في ذهن من أضافها اعتبارها وتجذيرها خطوة أساسية نحو تهيئة الناس في الدولة، أو الدولتين، لحرب عظمى تنشب بينهما. هل نمحو هذا الظن من تفكيرنا باعتبار خطورة الأخطاء المحتملة في التحليل القائم على النوايا، فالنوايا في القلوب كما يقال، أي خافية عن المحلل وأغلبية المشاركين في صنع قرارات السياسة الخارجية؟ أعتقد أن بايدن ليس في نيته تطوير المنافسة في اتجاه نشوب حرب يجري الاستعداد لشنها، ولكني أميل للاعتقاد بأنه واثق من أن مبادرة المنافسة الاستراتيجية التي صارت تعتنقها النخبة السياسية الأمريكية تحمل في طياتها فرص ومخاطر انزلاقها نحو حرب شاملة.

وبالتالي، أتصور أن عديدين من صانعي السياسة في الحلف الغربي وفي شرق آسيا واستراليا، وربما الهند صاروا متنبهين إلى احتمال زيادة في فرص نشوب حرب عالمية جديدة. السبب هو الدعوة المتكررة في الأكاديمية والعسكرية الغربية الموجهة لقادة الرأي والسياسة في الدول الصديقة والحليفة للانضمام إلى المبادرة. في هذه الحالة قد يقرر القادة في دول الغرب، أو بعضهم على الأقل، الانضمام إلى المبادرة بغرض العمل على كبح جماح قادة أمريكا المشهود لأسلافهم بالميل الشديد لإشعال حروب صغيرة وكبيرة، وإن أشعلوها فليكن الغرض الحد من الأخطاء الشنيعة التي عادة ما يرتكبها قادة أمريكا في إدارة تلك الحروب ومسارات الصراع. آخر دليل لديهم وحافز لهم هذا الوضع الهزيل الذي خلفته الحرب في أفغانستان والعراق نتيجة إدارة بالفعل سيئة.

وتحت مظلة المنافسة الاستراتيجية، وهي متصاعدة بحكم صفتها الاستراتيجية، الاحتمال كبير أن تنشب حرب عالمية لو توفرت فرص بعينها. مثلاً لو شعر أحد الطرفين بقصور نسبي في القوة الشاملة إزاء قوة المنافس، حينئذ تزداد الأصوات في مراكز السلطة والإعلام، وربما في مواقع تصنيع الأسلحة، تدعو للإسراع بشن حرب قبل أن تزداد اتساعاً الفجوة بين قوة هذه الدولة وتلك الدولة.

وتحت هذه المظلة، وبدافع منها، وبتأثير الشعور الحقيقي أو الزائف بالتفوق النسبي في مصادر القوة الشاملة وحال توازن القوة في لحظة بعينها، لا أستبعد تماماً أن تقرر النخبة الحاكمة في أمريكا تكرار ما فعلته فور انتهاء الحرب الباردة حين شنت حرباً وراء أخرى. انزلقت أمريكا في هاوية حربين تحت الشعور بأنها تنفرد بقيادة العالم، وأن لا دولة عظيمة أخرى تقف في طريقها، وتحت الشعور بأن من حقها أن تنتقم لنفسها من إرهابيين اعتدوا على السيادة الأمريكية في وقت ذروة سكرة أمريكا بالتميز والتفوق. كانت النتيجة مأساوية لأطراف عدة. عشنا، ونحن لسنا من الأطراف المباشرة التي ذاقت ويلات الغزو الأمريكي، وما زلنا نعيش تداعيات مأساة وتعقيدات عمليات الخروج من الحربين، حرب أفغانستان وحرب العراق، وعمليات الحرب العالمية ضد الإرهاب والانسحاب منها.

من الفرص المتوفرة فعلاً الانقسامات الرهيبة داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية. تغيرت طبيعة الخلافات السياسية من خلافات حزبية مرنة تشهد عليها معظم النظم الديمقراطية إلى مواقف جامدة ومتصلبة ترفضها أسس ومبادئ الديمقراطية الليبرالية. من هنا بات واضحاً أن الديمقراطية الأمريكية في أزمة، وعلامات تدهورها لم تعد خافية، ومنها هجوم اليمينيين المتطرفين على مبنى الكابيتول رمز النظام، منها أيضاً ولعله علامة أهم وأخطر، وقوف الحزب الجمهوري حائلاً ضد تدخل القضاء للتحقيق في دوافع هذا الهجوم ومنع تكراره. لذلك يشكك أكاديميون وباحثون في قيمة تصريح للرئيس بايدن جاء فيه أن المنافسة الاستراتيجية على قمة النظام الدولي ناشبة بالفعل بين الديمقراطية والأوتوقراطية. ويتساءلون كيف تدير أمريكا منافسة استراتيجية مع كل من الصين وروسيا وعشرات الدول الأخرى بينما الديمقراطية الأمريكية هي نفسها في حاجة لترميم وإصلاح وتحديث؟

لا جدال في أن إدارة منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة كقوة عظمى أنهكتها الحروب، والصين كقوة تلهث على طريق الصعود نحو القمة، تتطلب أولاً إعادة ترتيب أولويات المنافسة. الوضع الداخلي يجب أن يكون البند الأول في عملية إعادة ترتيب الأولويات. الداخل في الحالتين، حالة أمريكا وحالة الصين، وفي روسيا أيضاً، يحتاج إلى إصلاحات جذرية في الهياكل وفي الأيديولوجيا، عند ذاك يمكن للعالم أن يطمئن إلى أن المنافسة الاستراتيجية بين هذه القوى العظمى سوف تدار بمسؤولية.

نقلا عن الخليح