شكّل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان فرصة سانحة للعديد من الدول لتعزيز نفوذها في محاولة لاستغلال التقدم المتسارع لحركة طالبان ووصولها للعاصمة الأفغانية كابول، وكان من أبرزها تركيا وإيران، فمع سيطرة حركة طالبان الكاملة على السلطة، أُثيرت العديد من التساؤلات حول تأثير المتغيرات المتسارعة في أفغانستان على مصالح كلٍّ من تركيا وإيران، وبالتبعية العلاقات بين الدولتين، حيث يبدو أن كل دولة منهما تقترب من الملف الأفغاني وفقاً لمعطيات مختلفة. وفي هذا الإطار، يحتمل أن تشهد العلاقات التركية الإيرانية بعض التأزم نتيجة للقضايا التي تستدعي تناقضاً في الرؤى بين الدولتين، ولكن هذا لا يعني عدم وجود نقاط اتفاق بينهما، وإن تظل محدودة مقارنة بنظيرتها التي ستعمل على تأزم العلاقة.
ملامح التأزم
تفيد المؤشرات بأن تركيا مستعدة لقيادة مسرح العمليات بعد الانسحاب الأمريكي وتقدم حركة طالبان، ولكن -في المقابل- لن تقف إيران مكتوفة الأيدي، بل ستسعى لحجز حصة لها هناك حتى لا تتحول أفغانستان إلى مصدر تهديد لها وهو ما سيقود إلى التصادم مع تركيا نتيجة لتعارض أهدافهما حال سيطرة طالبان على الحكم. وفي هكذا سياق، يمكن القول إن التأزم بين أنقرة وطهران سيكون مرتبطاً بعددٍ من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- توسيع دائرة النفوذ الإقليمي: ستسعى كلٌّ من تركيا وإيران إلى تعزيز نفوذهما في أفغانستان، وذلك بالتعامل البراجماتي مع طالبان حال سيطرتها على الحكم، وهو ما سيؤدي للتنافس الإقليمي بينهما.
بالنسبة لتركيا، تُمثل أفغانستان فرصة لتوسيع دائرة نفوذها، وعليه عملت الحكومة التركية على فتح قنوات اتصال مع طالبان، كما عبرت في أكثر من مناسبة عن رغبتها في تأمين وإدارة مطار كابول، وهو المقترح الذي تنظر إليه تركيا على أنه استراتيجية خاصة لتعزيز نفوذها في الخارج على غرار ما قامت به في دول أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا لتحقيق هدف رئيسي وهو التسليم بأن تركيا دولة إقليمية كبرى.
على الجانب الآخر، تسعى إيران لوضع موطئ قدم لها في أفغانستان نتيجة للجوار الجغرافي معها، وهو ما جعل الأوضاع غير المستقرة في أفغانستان على مدى العقود الماضية مصدر قلق دائم للنظام السياسي في طهران، ناهيك عن التداخل الديموغرافي بين البلدين. ولذا سعت طهران إلى فتح قنوات للتواصل مع حركة طالبان وإقامة علاقات مصلحية معها، وهو الأمر الذي بدأ حتى قبل التطورات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، استقبل وزير الخارجية الإيراني السابق “جواد ظريف” وفداً من الحركة في يناير 2021، كما التقى رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني “علي شمخاني”، في طهران بشهر يناير الماضي، مع الملا “عبدالغني برادر” القيادي بالحركة. علاوة على ذلك، فقد عملت طهران على ضبط تحركات أقلية الهزارة الشيعية داخل أفغانستان، ومطالبتها بعدم التطوع في الحرب ضد طالبان.
2- ازدياد حدة أزمة تدفق اللاجئين: من المتوقّع أن تتوتر العلاقات الإيرانية-التركية نتيجة لزيادة تدفق اللاجئين الأفغان هروباً من بطش طالبان في حال تمكّنها من السيطرة على الحكم في البلاد. حيث تُشير التقديرات إلى أن إيران تستضيف ما يقارب الـ2.5 مليون أفغاني ما بين مسجل وغير مسجل، ومن المتوقع تدفق ما يصل إلى مليون أفغاني عبر الحدود. ولا شكّ أن تلك الأعداد الضخمة تفرض صعوبات اقتصادية على إيران، في الوقت الذي يعاني فيه الإيرانيون أزمات معيشية صعبة بسبب العقوبات.
وبناءً عليه، حاولت إيران التخفيف من هذه المشكلة عبر توجيه موجات النزوح إلى تركيا، والتي يرغب أغلب اللاجئين الأفغان في التوجه لها للعبور منها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع تركيا لبناء جدار حدودي مع إيران لمنع تدفق المهاجرين الأفغان، وهو ما سيؤدي لزيادة العبء على إيران وباكستان.
3- تعارض المواقف بشأن العلاقة مع واشنطن: ستساهم سيطرة طالبان على الحكم في تعارض الموقف التركي مع الإيراني حيال التعامل مع واشنطن، وهو ما قد يؤدي إلى تأزم العلاقات بينهما في المستقبل، حيث ترى أنقرة أن دورها في أفغانستان سيساعد في تحسين العلاقات التركية-الأمريكية مجدداً، في حين أن الولايات المتحدة قد ترى في تركيا “وكيلاً” جيداً لمصالحها في أفغانستان. وبالتالي، توظف أنقرة الملف الأفغاني للحصول على تنازلات دبلوماسية واقتصادية من واشنطن، ناهيك عن رغبتها في إيجاد ملفات تعاونية مع واشنطن لموازنة القضايا الخلافية بين الجانبين، كقضية امتلاك تركيا منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، وتعليق واشنطن مشاركة أنقرة في برنامج تصنيع المقاتلة “إف-35″، والدعم الأمريكي لأكراد سوريا والداعية الإسلامي فتح الله كولن الذي تتهمه أنقرة بالتورط في محاولة الانقلاب العسكري عام 2016.
ومن جهة أخرى، تطمح إيران لاستخدام طالبان كورقة ضغط ضد واشنطن، وتكمن المصلحة الإيرانية القصوى في أفغانستان في رغبتها باستبدال الوجود الأمريكي المقلق بموطئ نفوذ لها هناك، وعليه لن تلجأ إيران للتعاون مع واشنطن كما تفعل تركيا، بل ستحاول أن تُعزز علاقاتها مع طالبان بشكل أكبر. وأبرز دليل على ذلك هو فتحها قنوات اتصال مع طالبان، وسرعة الاعتراف بها، مستغلة القواسم المشتركة بينهما بما في ذلك عداؤهما للولايات المتحدة الذي يمكن أن يمهد الطريق نحو تعاون استراتيجي مستقبلي بينهما بهدف إلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
تأثيرات انتشارية
من المرجّح أن تدفع العلاقات المتأزمة بين تركيا وإيران في ضوء تعارض مصالحهما في أفغانستان، إلى استمرار تعقد الأزمات العربية، وأبرزها سوريا والعراق.
فعلى الصعيد العراقي، يمكن أن تؤدي السياسات التركية المتعلقة بتحسين علاقاتها مع الغرب عبر البوابة الأفغانية، إلى توتر علاقات تركيا مع إيران وعودة التنافس بينهما، ولا سيما في شمال العراق، والذي كان قد بدأ مع ظهور معادلة جديدة تقف فيها تركيا إلى جانب حكومة إقليم كردستان ضد المليشيات المدعومة من إيران والمتحالفة فعلياً مع حزب العمال الكردستاني. وفي المقابل ستستخدم إيران الشيعة الأفغان لدعم وحفظ نفوذها في العراق، ولا سيما مع اقتراب موعد الانسحاب الأمريكي منها، وهو ما سيلقي بظلاله السلبية على مستقبل الصراع في العراق بتحويله لصراع نفوذ إقليمي بين تركيا وإيران باستخدام ورقة طالبان.
أما بالنسبة لسوريا، فيحتمل أن تزداد التوترات الإيرانية-التركية التي بدأت مع المحاولات التركية للتغلغل العسكري في إدلب مع استمرار وجود الجماعات الجهادية السنية في المنطقة، وهو ما اعتبرته إيران تهديداً لمصالحها بسوريا.
مصالح متعارضة
ختاماً، يمكن القول إن مستقبل العلاقات الإيرانية-التركية سوف يشهد تأزماً في ضوء سيطرة طالبان على الحكم نتيجة لتعارض المصالح بينهما، وقدرتهما على الاستفادة من المعطيات المتاحة، وسعي كل منهما لاستمالة طالبان، وكل هذا سيتوقف على ملامح السياسة الإقليمية لطالبان، فالحركة تحاول الإفادة من تنازع القوى العظمى بما يعود عليها بالنفع، وتلعب أيضاً بالأوراق الدبلوماسية على المستوى الإقليمي قبل الدولي، فترسل تطمينات إلى روسيا والصين وإيران، ولديها علاقات مميزة مع باكستان، لكنها في معرض الحديث عن تركيا تذكر الحكومة التركية بالأخوّة الإسلامية وفرص الاستثمار الممكنة في المستقبل لإعمار البلاد.