إن كل الاجتهادات الأكاديمية التي حاولت أن تصنع تطابقاً بين المنطقة العربية والشرق الأوسط باعتباره الإطار الإقليمي الذي يحتويها، لم تحقق نجاحاً، بل ارتبطت بأهداف يقع في مقدمتها الرغبة في طمس معالم العروبة والابتعاد عن مظاهرها القومية والتركيز على البعد الجغرافي وحده حتى يكون الحديث دائماً في إطار الخريطة التقليدية لغرب آسيا، خصوصاً أن المنطقة العربية موزعة جغرافياً بين المشرق والمغرب العربي، وذلك يعني الخروج من الدائرة الموحدة التي تجمع العرب، وصولاً إلى توزيع جغرافي لتلك الأمة الكبيرة بين القارتين الأفريقية والآسيوية، ويجب أن ندرك هنا أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الأفريقية، ولقد حاولت إسرائيل في كل المناسبات أن تفرغ المنطقة من مضمونها العربي لتجعلها مقترنة بإطارها الإقليمي، ولعل مؤتمرات الشرق الأوسط المتتالية، والتي كان عرّابها شيمون بيريز، قد دعت في مجمل حركتها إلى توظيف البعد الجيوبوليتيكي بديلاً للجوهر السياسي الذي يعتمد على مضمون العروبة، ولنا هنا أن نضع القارئ في ترتيب أكثر تحديداً للإفصاح عما نريد التركيز عليه:
أولاً: درجت المنظمات الدولية على الأخذ بمعيار التقسيم الجغرافي في تحديد الأقاليم والمناطق المرتبطة ببرامج سياسية أو تنموية، وأتذكر من خلال عملي سفيراً لمصر ومندوباً دائماً لدى المنظمات الدولية في العاصمة النمساوية، أنني اكتشفت أنه لا يوجد ما يمكن تسميتها المجموعة العربية، فذلك تعبير داخلي، ولكنه لا يرقى إلى الوجود في أوراق المنظمات الدولية، وأن الوجود الرسمي لبلادي يكون في المجموعة الأفريقية، واكتشفت وقتها أن المعيار الجغرافي هو الذي يحدد انتماء الدول لمجموعات معينة داخل الأمم المتحدة، وقياساً على ذلك حاولت الدولة العبرية أن تضرب التكتل العربي، وأن تستبدل به تعبيراً جديداً هو النظام الشرق أوسطي الذي لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم العروبة، بل هو يشمل جغرافياً دولاً أخرى قد تكون فيها تركيا وإيران، وربما إسرائيل من وجهة نظر حلفائها، وذلك يعني ببساطة أن الجوار الجغرافي يعلو على الانتماء القومي بما يترتب على ذلك من آثار سياسية تعطي مكتبسات محددة للبعض على حساب أوضاع تاريخية وثقافية يجري التنكر لها على الرغم من المشاعر القومية، وما زلنا نتابع دائماً الإصرار الإيراني، على سبيل المثال، على إطلاق اسم الخليج الفارسي على ما يسميه العرب الخليج العربي، كذلك فإن التسميات لا تقف عند حدود الشكل، ولكنها تؤثر أيضاً في المضمون.
ثانياً: نلاحظ دائماً أن الكتابات الغربية عن مناطق العالم وأقاليمه تمضي وراء السياق الجغرافي لأنه سياق محايد لا يمثل رأياً سياسياً ولا يلزم صاحبه باتخاذ موقف معين، كما أنه يسمح لكيانات معينة أن تذوب في بحر الجوار، وأن تتمتع بمزايا لم تكن متاحة لها من قبل، فالمعيار الجغرافي معيار أصم ولا يرتب آثاراً أو حقوقاً لأي طرف على حساب المجموع، كذلك فإن تحديد الأقاليم وفقاً لسياسة مدروسة يساعد على اكتشاف المؤثرات التي تمضي في اتجاه معين.
ثالثاً: لا شك أن ضعف التماسك بين أطراف الأمة أدى إلى انهيار تأثيرها وانعدام قدرتها على بلورة هوية واضحة تصبح بديلاً للإطار الجغرافي، فالذي حدث أن المنظمات الإقليمية الجغرافية قد أثبتت وجودها على نحو أفضل من المنظمات ذات الطابع القومي نتيجة لعدم القدرة على إبراز الهوية بسبب ضعف مقومات أصحابها، والعرب متهمون حالياً بالذوبان في المفهوم الجغرافي للأقاليم بعيداً عن التأثير الفكري والعقائدي الذي يطرح الوجود القومي بديلاً للتقسيم الجغرافي، ولا شك أن هناك إسهاماً إسرائيلياً في تغيير ملامح المنطقة وتحويلها في اتجاه مختلف ليصبح الحديث عن الشرق الأوسط بديلاً للحديث عن الفضاء العربي والمحيط القومي فلقد تداعت بحق مقومات العروبة لدى أصحابها فضعف تأثيرها أمام غيرها، وسيظل البعد القومي راكداً ما لم تكن الشعوب المنتمية إليه قادرة على فرض وجودها ونشر تأثيرها.
رابعاً: لقد عكفت إسرائيل دائماً على تمييع هوية المنطقة وانتزاعها من أحضان العروبة لتصبح تعبيراً جغرافياً بحتاً تتمتع فيه إسرائيل بالعضوية الكاملة ولا تشعر بعد ذلك بالإقصاء، وتلك فلسفة وقفت وراء كل الدعوات التي عرفناها في العقود الأخيرة لتأصيل رؤية إقليمية للوطن العربي تصبح بديلاً لهويته القومية وتضم دول التخوم والأطراف بغض النظر عن هويتها القومية، وقد أدى ضعف جامعة الدول العربية إلى شيء من ذلك، خصوصاً بعد توقف سياسات القمم العربية نسبياً في ظل انتشار الفيروس الوبائي الذي اجتاح العالم في العامين الأخيرين.
خامساً: لا يخفى علينا أن هناك محاولة دائمة من ربط اسم كل إقليم بالقوى الكبرى المؤثرة فيه، وهو نفس الأمر الذي ينسحب على البحار والأنهار لأن الارتباط بين الواقع الجغرافي وبين الخلفية التاريخية يعطي لبعض الأمم مكانة وقيمة، والنموذج الواضح لذلك كما أسلفنا هو إصرار إيران على التسمية القديمة للخليج الاسم بالفارسي، ولا شك أن الصراع العربي – الإسرائيلي قد انعكس منذ بدايته على محاولات تغيير هوية المنطقة العربية، فإسرائيل حاولت منذ ميلادها البحث عن أسلوب يؤكد مزاعمها التاريخية والدينية للوجود في المنطقة منذ آلاف السنين، وهو زعم مردود عليه لأنه لا توجد لدى إسرائيل أو العبرانيين عموماً ما يوحي بوجودهم في المنطقة إلا في مملكة سليمان وداوود، ومع ذلك حاولت الدولة العبرية السطو على هوية المنطقة وسرقة جزء من شخصيتها، فتارة تجد من يدعي أنهم بُناة الأهرام، وتارة ثانية يتحدثون عن الأطعمة العربية التقليدية باعتبارها أطعمة يهودية مع أن نفي كل ذلك أمر يسير، ولكنه يفسر حجم الادعاءات التي تطلقها دولة إسرائيل من أجل أن تجد لها مكاناً بين مقومات الدول الأخرى في إقليم الشرق الأوسط، ولذلك فهي شديدة التمسك بإلصاق شخصيتها بالمنطقة العربية، ولكن تحت اسم جديد تستخدم فيه المعيار الجغرافي.
سادساً: تشجع القوى المعادية للقومية العربية على تبني رؤى مختلفة عما استقرت عليه حركة التاريخ بأحداثه الموثقة وآثاره الباقية، وهي تكره بالضرورة أن تحمل المنطقة اسم خصومها العرب على الرغم مما يلوح في الأفق من بشائر التسوية ومقدمات الاستقرار لأن الحالة العامة في المنطقة قد تغيرت وأصبح التركيز على مفهوم العروبة أقل بكثير مما كان متوقعاً، بل وأصبحنا أمام عالم مختلف وإقليم طرأت عليه مستجدات استراتيجية لم تكن موجودة من قبل من أهمها التركيز على التسمية التي عرفناها بشكل متكرر في أدبيات السياسة والدبلوماسية عبر العقود الأخيرة.
سابعاً: إن تسمية المنطقة التي نعيش فيها قد مرت هي الأخرى بمراحل مختلفة، بدأت بتعبير الشرق الأدنى الذي اخترعته بريطانيا في سنوات احتلالها لمصر وغيرها من دول المنطقة، والأمر ذاته ينسحب على فترة إنشاء كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، حيث ارتفعت نغمة الاهتمام بالمستعمرات وراء البحار وشارك داهية الدبلوماسية البريطانية (ونستون تشرشل) في المضي وفقاً لمخطط يسلب مفهوم العروبة من التعبير الجغرافي عن العالم العربي الكبير.
لقد بدا واضحاً من كل ما عرضناه أن هويتنا القومية تتأرجح بين المفهوم النظري للعروبة في جانب، والتعبير المباشر عن الواقع الجغرافي على الجانب الآخر، ويبقى الدعم العربي إلحاحاً على الهوية التي ارتبطت بالآباء والأجداد أمراً مهماً يطارد عمليات طمس الوجود العربي على المدى الطويل.
نقلا عن اندبندنت عربية